فصل: تفسير الآيات رقم (25- 28)

مساءً 9 :12
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
29
الإثنين
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


سورة المعارج

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ‏(‏1‏)‏ لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ‏(‏2‏)‏ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ ‏(‏3‏)‏ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ‏(‏4‏)‏ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ‏(‏5‏)‏‏}‏

لما ختم أمر الطامة الكبرى في الحاقة حتى ثبت أمره، وتساوى سره وجهره، ودل عليها حتى لم يبق هناك نوع لبس في وجوب التفرقة في الحكمة بين المحسن والمسيء، وختم بأن ترك ذلك مناف للكمال فيما نتعارقه من أمور العمال بعد أن أخبر أنه يعلم أن منهم مكذبين، وكان السائل عن شيء يدل على أن السائل ما فهمه حق فهمه، ولا اتصف بحقيقة علمه، عجب في أول هذه ممن سأل عنها فقال‏:‏ ‏{‏سأل‏}‏ ودل على أنه لو لم يسأل عنها إلا واحد من العباد لكان جديراً بالتعجب منه والإنكار عليه بالإفراد في قوله‏:‏ ‏{‏سائل‏}‏ وهو من السؤال في قراءتي من خفف بإبدال الهمزة ألفاً ومن همز‏.‏

ولما كان سؤالهم من وقت مجيء الساعة والعذاب وطلبهم تعجيل ذلك إنما هو استهزاء، ضمن «سأل» استهزاء ثم حذفه ودل عليه بحال انتزعها منه وحذفها ودل عليها بما تعدى به فقال، أو أنه حذف مفعول السؤال المتعدي «بعن» ليعم كل مسؤول عنه إشارة إلى أن من تأمل الفطرة الأولى وما تدعو إليه من الكمال فأطاعها فكان مسلماً فاضت عليه العلوم، وبرقت له متجليه أشعة الفهوم، فبين المراد من دلالة النص بقوله‏:‏ ‏{‏بعذاب‏}‏ أي عن يوم القيامة بسبب عذاب أو مستهزئاً بعذاب عظيم جداً ‏{‏واقع *‏}‏ وعبر باللام تهكماً منهم مثل ‏{‏فبشرهم بعذاب‏}‏ فقال‏:‏ ‏{‏للكافرين‏}‏ أي الراسخين في هذا الوصف بمعنى‏:‏ إن كان لهم في الآخرة شيء فهو العذاب، وقراءة نافع وابن عامر بتخفيف الهمزة أكثر تعجيباً أي اندفع فمه بالكلام وتحركت به شفتاه لأنه مع كونه يقال‏:‏ سال يسأل مثل خاف يخاف لغة في المهموز يحتمل أن يكون من سأل يسأل، قال البغوي‏:‏ وذلك أن أهل مكة لما خوفهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعذاب قالوا‏:‏ من أهل هذا العذاب ولمن هو‏؟‏ سلوا عنه، فأنزلت‏.‏

ولما أخبر بتحتم وقوعه علله بقوله‏:‏ ‏{‏ليس له‏}‏ أي بوجه من الوجوه ولا حيلة من الحيل ‏{‏دافع *‏}‏ مبتدئ ‏{‏من الله‏}‏ أي الملك الأعلى الذي لا كفؤ له فلا أمر لأحد معه، وإذا لم يكن له دافع منه لم يكن دافع من غيره وقد تقدم الوعد به، ودلت الحكمة عليه فتحتم وقوعه وامتنع رجوعه‏.‏

ولما كان القادر يوصف بالعلو، والعاجز يوصف بالسفول والدنو، وكان ما يصعد فيه إلى العالي يسمى درجاً، وما يهبط فيه إلى السافل يسمى دركاً، وكانت الأماكن كلها بالنسبة إليه سبحانه على حد سواء، اختير التعبير بما يدل على العلو الذي يكنى به عن القدرة والعظمة، فقال واصفاً بما يصلح كونه مشيراً إلى التعليل‏:‏ ‏{‏ذي المعارج *‏}‏ أي الدرج التي لا انتهاء لها أصلاً- بما دلت عليه صيغة منتهى الجموع وهي كناية عن العلو، وسميت بذلك لأن الصاعد في الدرج يشبه مشية الأعرج، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها السماوات، ودل على ما دلت عليه الكثرة مع الدلالة على عجيب القدرة في تخفيفها على الملائكة بقوله‏:‏ ‏{‏تعرج الملائكة‏}‏ أي وهم أشد الخلق وأقدره على اختراق الطباق، والإسراع في النفوذ حتى يكونوا أعظم من لمح البرق الخفاق ‏{‏والروح‏}‏ أي جبريل عليه السلام، خصه تعظيماً له، أو هو خلق هو أعظم من الملائكة، وقيل‏:‏ روح العبد المؤمن إذا قبض ‏{‏إليه‏}‏ أي محل مناجاته ومنتهى ما يمكن من العلو لمخلوقاته، وعلق بالعروج أو بواقع قوله‏:‏ ‏{‏في يوم‏}‏ أي من أيامكم، فيه آدمياً ‏{‏خمسين ألف‏}‏ وبين المشقة في صعوده أو الكون فيه إن أريد القيامة بأن قال‏:‏ ‏{‏سنة *‏}‏ ولم يقل‏:‏ عاماً- مثلاً، ويجوز أن يكون هذا اليوم ظرفاً للعذاب فيكون المراد به يوم القيامة، وأن يكون طوله على الكافر باعتبار ما يلحقه من الغم لشدة المخاوف عليه لأنه ورد أنه يخفف على المؤمن حتى يكون بمقدار صلاة واحدة- انتهى‏.‏

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المعنى أنه لو ولي الحساب غير الله لم يفرغ منه إلا في هذا المقدار، ويفرغ منه هو سبحانه في نصف يوم من أيام الدنيا، وقال مجاهد والحكم وعكرمة‏:‏ هو عمر الدنيا من أولها إلى آخرها خمسون ألف سنة لا يدري أحدكم مضى وكم بقي إلا الله، وقد مضى في سورة ‏{‏ألم السجدة‏}‏ ما ينفع ههنا‏.‏

ولما كان هذا كله تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن استعجالهم إياه بالعذاب استهزاء وتكذيباً سواء أريد تصوير العظمة أو العذاب، سبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فاصبر‏}‏ أي على أذاهم ولا ينفك ذلك عن تبليغهم فإنك شارفت وقت الانتقام منهم أيها الفاتح الخاتم الذي لم أبين لأحد ما بينت على لسانه، والصبر‏:‏ حبس النفس على المكروه من الإقدام أو الإحجام، وجماله بسكون الظاهر بالتثبت والباطن بالعرفان ‏{‏صبراً جميلاً *‏}‏ أي لا يشوبه شيء من اضطراب ولا استثقال، ولا شكوى ولا استعجال، فإن عذابهم ونصرك عليهم لعظمة من أرسلك، فلا بد من وقوعه لأن القدح فيه والتكذيب به قدح فيها، وهذا قبل الأمر بالقتال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 13‏]‏

‏{‏إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ‏(‏6‏)‏ وَنَرَاهُ قَرِيبًا ‏(‏7‏)‏ يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ‏(‏8‏)‏ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ‏(‏9‏)‏ وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ‏(‏10‏)‏ يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ‏(‏11‏)‏ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ‏(‏12‏)‏ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ‏(‏13‏)‏‏}‏

وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير‏:‏ لما انطوت سورة الحاقة على أشد وعيد وأعظمه أتبعت بجواب من استبطأ ذلك واستبعده إذ هو مما يلجأ إليه المعاند الممتحن، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏سأل سائل بعذاب واقع‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 1‏]‏ إلى قوله ‏{‏إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 6 و7‏]‏ ثم ذكر حالهم إذ ذاك ‏{‏يوم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 11‏]‏ الآية، ثم أتبع بأن ذلك لا يغني عنه ولا يفيده ‏{‏إنها لظى‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 15‏]‏ ثم ختمت السورة بتأكيد الوعيد وأشد التهديد ‏{‏فذرهم يخوضوا ويلعبوا‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 42‏]‏ إلى قوله ‏{‏ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 44‏]‏ ذلك يوم الحاقة ويوم القارعة- انتهى‏.‏

ولما كان كونه تعالى، بما تقدم في العظمة، أمراً معلوماً بما له من الآثار من هذا الكون وما فيه، وكان استبعادهم لما أخبر به أمراً واهياً ضعيفاً سفسافاً لا يكاد يصدق أن أحداً يحاول أن يرد به هذه الأمور التي هي في وضوحها كالشمس لا خفاء بها أصلاً ولا لبس قال مؤكداً‏:‏ ‏{‏إنهم‏}‏ أي الكفار المكذبين المستعجلين ‏{‏يرونه‏}‏ أي ذلك اليوم الطويل أو عذابه ‏{‏بعيداً *‏}‏ أي زمن وقوعه، لأنهم يرونه غير ممكن أو يفعلون أفعال من يستبعده ‏{‏ونراه‏}‏ لما لنا من العظمة التي قضت بوجوده وهو علينا هين ‏{‏قريباً *‏}‏ سواء أريد بذلك قرب الزمان أو قرب المكان، فهو هين على قدرتنا وهو آت لا محالة، وكل آت قريب والبعيد والقريب عندنا على حد سواء‏.‏

ولما ذكر عن هذا اليوم ما يبعث على السؤال عنه، استأنف بيانه مبيناً عظمته فقال‏:‏ ‏{‏يوم‏}‏ أي يقع حين ‏{‏تكون السماء‏}‏ أي التي هي أوثق ما تراه وأصلبه من عظم ما يقع فيه من الأهوال ‏{‏كالمهل *‏}‏ أي الشيء المذاب من المعادن في مهل أو دردي الزيت ‏{‏وتكون الجبال‏}‏ التي هي أشد الأرض وأثقل ما فيها ‏{‏كالعهن *‏}‏ أي الصوف المصبوغ ألواناً المنقوش، تطيره الريح كالهباء، وذلك لأن الجبال في أصلها متلونة كما قال تعالى ‏{‏ومن الجبال جدد وبيض وحمر‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 27‏]‏ الآية، قال البغوي‏:‏ ولا يقال عهن إلا للمصبوغ، قال‏:‏ وأول ما تتغير الجبال تصير رملاً مهيلاً ثم عهناً منفوشاً ثم هباء منثوراً- انتهى‏.‏ ‏{‏ولا يسأل‏}‏ من شدة الأهوال ‏{‏حميم حميماً‏}‏ أي قريب في غاية القرب والصداقة قريباً مثله عن شيء من الأشياء لفرط الشواغل ولأنه قد كشف لهم أنه لا تغني نفس عن نفس شيئاً، وأنه قد تقطعت الأسباب وتلاشت الأنساب لما كشف الابتلاء عن أنه لا عز إلا بالتقوى- هذا على قراءة الجماعة بفتح الياء وعلى قراءة ابن كثير بالبناء للمفعول المعنى أنه لا يطالب أحد بأحد كما بعض الحكام في الدنيا من أنه يلزم أقارب من قربه لأنه لا حاجة له بذلك، لأن القدرة محيطة بالكل على حد سواء‏.‏

ولما كان عدم السؤال قد يكون لعدم رؤية بعضهم بعضاً لكثرة الجمع وشدة الزحام وتفرق الناس فيه على حسب مراتب أعمالهم، استأنف الجواب لمن كأنه يقول‏:‏ لعل ذلك يترك لعدم رؤيتهم لهم‏؟‏ فقال دالاً بالمجهول والتفعيل على عظمة ذلك التبصير وخروجه عن العادة جامعاً لأن المقصود من الحميم الجنس والجمع أدل على عموم التبصير، قال البغوي‏:‏ وليس في القيامة مخلوق إلا وهو نصب عين صاحبه من الجن والإنس- انتهى، وكان حكمة ذلك أنه أدل على تقطع الأسباب فلا يسأل أحد منهم الآخر عن شيء من أمره لاشتغال كل بنفسه، فعدم السؤال لا للخفاء بل للاشتغال وهم كل إنسان بما عنده‏:‏ ‏{‏يبصرونهم‏}‏ أي يبصرهم مبصر فلا يخفى أحد على أحد وإن بعد مكانه ويفر كل من الآخر لشغله بنفسه، ولما تناهى الإخبار بعظمة ذلك اليوم إلى حد لا تحتمله القلوب، ذكر نتيجة ذلك فقال مستأنفاً‏:‏ ‏{‏يود‏}‏ أي يتمنى ويشتهي ‏{‏المجرم‏}‏ أي هذا النوع سواء كان كافراً أو مسلماً عاصياً علم أنه يعذب بعصيانه، وقيد به لأن المسلم الطائع يشفع فيمن أذن له فيه ولا يهمه شيء من ذلك، ودل على أن هذه الودادة مجرد تمن بقوله‏:‏ ‏{‏لو يفتدي‏}‏ أي نفسه ‏{‏من عذاب يومئذ‏}‏ أي يوم إذ كانت هذه المخاوف بأعلق الناس بقلبه وأقربهم منه فضلاً عن أن يسأل عن أحواله‏.‏

ولما كان السياق للافتداء، بدأ بأعزهم في ذلك بخلاف ما يأتي في عبس فقال‏:‏ ‏{‏ببنيه *‏}‏ لشدة ما يرى‏.‏

ولما ذكر ألصق الناس بالفؤاد وأعز من يلزمه لنصره والذب عنه، أتبعه ما يليه في الرتبة والمودة وما الافتداء به لا سيما عند العرب من أقبح العار فقال‏:‏ ‏{‏وصاحبته‏}‏ أي زوجته التي يلزمه الذب عنها والكون دائماً معها لكونها عديلة روحه في الدنيا‏.‏

ولما ذكر الصاحبة لما لها من تمام الوصلة، أتبعها الشقيق الذي لا يلزم من الذب عنه ما يلزم من الذب عن الحريم وربما كان مبايناً، فقال‏:‏ ‏{‏وأخيه *‏}‏‏.‏

ولما كان من بقي من الأقارب بعد ذلك متقاربين في الرتبة ذكر أقربهم فقال‏:‏ ‏{‏وفصيلته‏}‏ أي عشيرته الذين هم أقرب من فصل عنه ‏{‏التي تؤويه *‏}‏ أي تضمه إليها عند الشدائد وتحميه، لأنه أقرب الناس إليها وأعزهم عليها فهم أعظم الناس حقاً عليه وأعزهم لديه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 21‏]‏

‏{‏وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ ‏(‏14‏)‏ كَلَّا إِنَّهَا لَظَى ‏(‏15‏)‏ نَزَّاعَةً لِلشَّوَى ‏(‏16‏)‏ تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى ‏(‏17‏)‏ وَجَمَعَ فَأَوْعَى ‏(‏18‏)‏ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ‏(‏19‏)‏ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ‏(‏20‏)‏ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ‏(‏21‏)‏‏}‏

ولما كانت هذه الآية في الفدية، قدم الأبعد عن ذلك فالأبعد من جهة النفع والمعرة‏.‏ ولما كانت آية عبس في الفرار والنفرة، قدم الألصق فالألصق، والأعلق في الأنس فالأعلق‏.‏

ولما خص هنا عم فقال‏:‏ ‏{‏ومن في الأرض‏}‏ أي من الثقلين وغيرهم سواء كان فيهم صديق لا صبر عنه ولا بد في كل حال منه أو لا‏.‏ ولما كان ربما خص ذلك بغيره، قال محققاً لإرادة الحقيقة في معنى «من»‏:‏ ‏{‏جميعاً‏}‏‏.‏

ولما كان الإنسان تكشف له الأمور هناك أي كشف، وتظهر له أتم ظهور، قال تعالى ‏{‏فبصرك اليوم حديد‏}‏ فيعلم أنه لا ينجيه من الخطايا المحيطة المحبطة شيء، دل على الاستبعاد بأداة البعد فقال عاطفاً على «يفتدي»‏:‏ ‏{‏ثم ينجيه *‏}‏ أي ثم يود لو يكون له بذلك نجاة تتجدد له في وقت من الأوقات‏.‏

ولما كان هذا مما قد يطمع في النجاة، فإن بعض الناس يطبع على قلبه فيستغويه الأطماع حتى يعد المحال ممكناً، قال معبراً بمجمع الروادع والزواجر الصوادع‏:‏ ‏{‏كلا‏}‏ أي ليكن للمجرم ردع أيّ ردع عن وداده هذا وترتب أثره عليه، فإن ذلك لا يكون أبداً بوجه من الوجوه‏.‏

ولما كان الإضمار قبل الذكر لتعظيم ذلك المضمر في المهيع الذي هو فيه، لأن ذلك إشارة إلى أنه مستحضر في الذهن لا يغيب أصلاً لما للمقام عليه من عظيم الدلالة، قال بعد هذا الردع العظيم عن النجاة بل عن ودادة تمنيها‏:‏ ‏{‏إنها‏}‏ أي النار التي هي سوط الملك المعد لمن عصاه، المهدد في هذا السياق بعذابها، المستولية عليه لتكونه سجنه‏:‏ ‏{‏لظى *‏}‏ أي ذات اللهب الخالص المتناهي في الحر يتلظى أي يتوقد فيأكل بسببه بعضها بعضاً إن لم تجد ما تأكله وتأكل ما وجدته كائناً ما كان ‏{‏نزاعة للشوى *‏}‏ أي هي شديدة النزع لجلود الرؤوس بليغته فما الظن بغيره من الجلد، وقال في القاموس‏:‏ الشوى‏:‏ اليدان والرجلان والأطراف وقحف الرأس وما كان غير مقتل- انتهى، وقيل‏:‏ والجلد كله واللحم تنزع ذلك ثم يعود كما كان في الحال ليروا التعب الذي كانوا ينكرونه في أنفسهم في كل لحظة‏.‏

ولما كان الخلاص غير ممكن من الداعي القادر على الإحضار كنى عن إحضارها إياهم وجذبها لهم بقوله‏:‏ ‏{‏تدعوا‏}‏ ويجوز أن يكون ذلك حقيقة فتقول في الدعاء في نفسها‏:‏ إليّ يا مشرك إليّ يا منافق، ونحو ذلك ثم تلتقطهم التقاط الطير للحب ‏{‏من‏}‏ أي كل شخص ‏{‏أدبر‏}‏ أي من الجن والإنس أي من وقع منه إدبارهما من حقه الإقبال عليه سواء كان ذلك الإدبار عنها أو عن الأعمال التي من شأنها التنجية منها، ولما كان الإدبار قد يكون عن طبع غالب فيكون صاحبه في عداد من يعذر، بين أن الأمر ليس كذلك فقال‏:‏ ‏{‏وتولى *‏}‏ أي كلف فطرته الأول المستقيمة الإعراض عن أسباب النجاة‏.‏

ولما كانت الدنيا والآخرة ضرتين، فكان الإقبال على إحداهما دالاً على الإعراض عن الأخرى، قال دالاً على إدباره بقلبه‏:‏ ‏{‏وجمع‏}‏ أي كل ما كان منسوباً إلى الدنيا‏.‏

ولما كانت العادة جارية بأن من كانت الدنيا أكبر همه كان همه بجمعه الاكتناز لا الإنفاق، سبب عن جمعه قوله‏:‏ ‏{‏فأوعى *‏}‏ أي جعل ما جمعه في وعاء وكنزه حرصاً وطول أمل ولم يعط حق الله فيه، فكان همه الإيعاء لا إعطاء ما وجب من الحق إقبالاً على الدنيا وإعراضاً عن الآخرة‏.‏

ولما كان من أعجب العجب أن يقبل على الدنيا أحد يسمع هذا التهديد بالعرض بين يدي الله والعقاب لمن لم يقبل على عبادته سبحانه، بين أن ذلك لما جبله عليه سبحانه وأن الإنسان مقهور مع جبلته إلا من حفظه الله، وذلك دال من كلا الطرفين على عظيم قدرته سبحانه، قال مؤكداً لاقتضاء المقام للتأكيد لأن الإنسان لو خوف بالعرض على بعض الأمراء ما لابس ما يغضبه فكيف بالعزيز الحكيم القدير العليم‏:‏ ‏{‏إن الإنسان‏}‏ أي هذا الجنس، عبر به لما له من الأنس بنفسه والرؤية لمحاسنها والنسيان لربه ولذنبه‏.‏

ولما دعا الحال إلى بيان الجبلة الداعية إلى ما يقتضيه باختيار صاحبها على وجه كأنه إلجاء بياناً لسهولة الأمور عليه سبحانه بنى للمفعول قوله‏:‏ ‏{‏خلق هلوعاً *‏}‏ أي جبل جبلة هو فيها بليغ الهلع وهو أفحش الجزع مع شدة الحرص وقلة الصبر والشح على المال والرغبة فيما لا ينبغي، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه الحريص على ما لا يحل له، وروي عنه أن تفسيره ما بعده‏.‏

ولما كان الهلع شدة الحرص وقلة الصبر، نشر معناه فقال مقدماً المعمول الذي هو الظرف على العامل بياناً لإسراعه في ذلك‏:‏ ‏{‏إذا مسه‏}‏ أي أدنى مس ‏{‏الشر‏}‏ أي هذا الجنس وهو ما تطاير شرره من الضر ‏{‏جزوعاً *‏}‏ أي عظيم الجزع، وهو ضد الصبر بحيث يكاد صاحبه ينقد نصفين ويتفتت ‏{‏وإذا مسه‏}‏ أي كذلك ‏{‏الخير‏}‏ أي هذا الجنس وهو ما يلائمة فيعينه من السعة في المال وغيره من أنواع الرزق ‏{‏منوعاً *‏}‏ أي مبالغاً في الإمساك عما يلزمه من الحقوق للانهماك في حب العاجل وقصور النظر عليه وقوفاً مع المحسوس لغلبة الجمود والبلادة، وهذا الوصف ضد الإيمان، لأنه نصفان‏:‏ صبر وشكر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 29‏]‏

‏{‏إِلَّا الْمُصَلِّينَ ‏(‏22‏)‏ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ‏(‏23‏)‏ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ‏(‏24‏)‏ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ‏(‏25‏)‏ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ‏(‏26‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ‏(‏27‏)‏ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ‏(‏28‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

ولما كان التقدير‏:‏ فهو يسارع في آثار ما جبل عليه ما يترتب على الجزع مما لا يجوز في الشرع ومما يترتب على المنع من ذلك أيضاً فيكون من أهل النار، وكان من القدرة البالغة أن يحفظ سبحانه من أراد من الخزي مع جبلته ويحمله على كسر نفسه مرة بعد أخرى حتى يتلاشى ما عنده من جبلة الشر وتبقى الروح على حالها عند الفطرة الأولى، فلا تزال تحثه على المبادرة إلى طاعته سبحانه وتعالى وحفظ حدوده، فكان لا كرامة أعظم من حفظ المكلف لحدود الشرع مع المنافاة لطبعه، فيكون جامعاً للإيمان بنصفيه‏:‏ الصبر والشكر، لما جمع من هذه الأوصاف الثمان المعادة لأبواب الجنة الثمان، فكان أسباباً لها، استثنى من هذا النوع الهلوع ولذلك جمع فقال‏:‏ ‏{‏إلا المصلين *‏}‏ أي المحافظين على الصلاة التي هي مواطن الافتقار، العريقين في هذا الوصف، فإنه لا يشتد هلعهم فلا يشتد جزعهم ولا منعهم، فيكونوا في أحسن تقويم معتدلين مسارعين فيما يرضي الرب، لأنه سبحانه قرن بما جبلهم عليه من الهلع من طهارة الجسد لطهارة طينته وزكاء روحه ما هيأه لتهذيب نفسه مما يسره له من أصدقاء الخير وأولياء المعروف وسماع المواعظ الحسان والإبعاد عن معادن الدنس من البقاع والأقران والكلام والأفعال وغير ذلك من سائر الأحوال، والملابسة بكل ما يحمل على المعالي من صالح الخلال حتى كانوا من أهل الكمال، ولذلك وصفهم بما يبين عراقتهم في الوصف لها فقال‏:‏ ‏{‏الذين هم‏}‏ أي بكلية ضمائرهم وظواهرهم ‏{‏على صلاتهم‏}‏ أي التي هي معظم دينهم وهي النافعة لهم لا لغيرهم- بما أفادته الإضافة، والمراد الجنس الشامل لجميع الأنواع إلا أن معظم المقصود الفرض، ولذلك عبر بالاسم الدال على الثبات في قوله‏:‏ ‏{‏دائمون *‏}‏ أي لا فتور لهم عنها ولا انفكاك لهم منها بل يلازمونها ملازمة يحكم بسببها أنها في حال الفراغ منه نصب أعينهم بدوام الذكر لها والتهيؤ لأدائها لأنها صلتهم بمعبودهم الذي لا خير عندهم إلا منه، فلم يكونوا ناسين لمساوئهم ولا آسين بمحاسنهم، وكفى بالصلاة بركة في دلالتها على النجاة من هذا الوصف الموجب لأسباب النار، وهي عبادة ذات شروط وأركان وأبعاض وهيئات وسنن وآداب مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم، وهي منقسمة إلى ذات ركوع وسجود، وإلى ذات سجود بلا ركوع كسجدة الشكر والتلاوة، وإلى ما لا ركوع فيها ولا سجود كصلاة الجنازة‏.‏

ولما ذكر زكاة الروح، أتعبه زكاة عديلها المال، فقال مبيناً للرسوخ في الوصف بالعطف بالواو‏:‏ ‏{‏والذين في أموالهم‏}‏ أي التي منَّ سبحانه بها عليهم ‏{‏حق‏}‏ ولما كان السياق هنا لأعم من المحسنين الذين تقدموا في الذاريات اقتصر على الفرض فقال‏:‏ ‏{‏معلوم *‏}‏ أي من الزكوات وجميع النفقات الواجبة‏.‏

ولما كان في السؤال من بذل الوجه وكسر النفس ما يوجب الرقة مع وقاية النفس مع المذمة، قدم قوله‏:‏ ‏{‏للسائل‏}‏ أي المتكلف لسؤال الإنفاق المتكفف‏.‏ ولما كان في الناس من شرفت همته وعلت رتبته على مهاوي الابتذال بذل السؤال من الإقلال بذب المقبل على الله للتفطن والتوسم لأولئك فقال‏:‏ ‏{‏والمحروم *‏}‏ أي المتعفف الذي لا يسأل فيظن غنياً ولا مال له يغنيه فهو يتلظى بناره في ليله ونهاره، ولا مفزع له بعد ربه المالك لعلانيته وإسراره إلا إلى إفاضة مدامعه بذله وانكساره، وهذا من الله تعالى حث على تفقد أرباب الضرورات ممن لا كسب له ومن افتقر بعد الغنى، وقد كان للسلف الصالح في هذا وأشباهه قصب السبق، حكي عن زين العابدين أنه لما مات وجد في ظهره آثار سود عند غسله كأنها السيور، فعجبوا منها، فلما كان بعد أيام قال نسوة أرامل‏:‏ كان شخص يأتي إلينا ليلاً بقرب الماء وأجربة الدقيق على ظهره ففقدناه واحتجنا، فعلموا أنه هو وأن تلك السيور من ذلك، وحي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن شخصاً رآه ماشياً في زمن خلافته في الليل فتبعه حتى يعلم إلى أين يقصد، فلم يزل رضي الله عنه حتى جاء إلى بيت نسوة أرامل فقال‏:‏ أعندكن ماء وإلا أملأ لكن، فأعطينه جرة فأخذها وذهب فملأها على كتفه وأتى بها إليهن، والحكايات عنهم في هذا الباب كثيرة شهيرة جداً‏.‏

ولما كان المال قد يصرف لإصلاح الدنيا، بين أن النافع منه إنما هو المصدق للإيمان فقال‏:‏ ‏{‏والذين يصدقون‏}‏ أي يوقعون التصديق لمن يخبرهم ويجددونه كل وقت ‏{‏بيوم‏}‏ ولما كان المقصود الحث على العمل لأجل العرض على الملك الأعلى عبر بقوله‏:‏ ‏{‏الدين *‏}‏ أي الجزاء الذي ما مثله وهو يوم القيامة الذي يقع الحساب فيه والدينونة على النقير والقطمير والتصديق به حق التصديق الاستعداد له بالأعمال الصالحة، فالذين يعملون لذلك اليوم هم العمال، وأما المصدقون بمجرد الأقوال فلهم الوبال وإن أنفقوا أمثال الجبال‏.‏

ولما كان الدين معناه الجزاء من الثواب والعقاب، وكان ربما صرفه صارف إلى الثواب فقط للعلم بعموم رحمته سبحانه، وأن رحمته غلبت غضبه، صرح بالعقاب فقال‏:‏ ‏{‏والذين هم‏}‏ أي بجميع ضمائرهم ‏{‏من عذاب ربهم‏}‏ أي المحسن إليهم، لا من عذاب غيره، فإن المحسن أولى بأن يخشى ولو من قطع إحسانه، وإذا خيف مع تجليه في مقام الإحسان كان الخوف أولى عند اعتلائه في نعوت الجلال من الكبر والقهر والانتقام ‏{‏مشفقون *‏}‏ أي خائفون في هذه الدار خوفاً عظيماً هو في غاية الثبات من أن يعذبهم في الآخرة أو الدنيا أو فيهما، فهم لذلك لا يغفلون ولا يفعلون إلا ما يرضيه سبحانه‏.‏

ولما كان المقام للترهيب، ولذلك عبر عن الرجاء على فعل الطاعات بالدين، فصار العذاب مذكوراً مرتين تلويحاً وتصريحاً، زاده تأكيداً بقوله اعتراضاً مؤكداً لما لهم من إنكاره‏:‏ ‏{‏إن عذاب ربهم‏}‏ أي الذي رباهم وهم مغمورون بإحسانه وهم عارفون بأنه قادر على الانتقام ولو بقطع الإحسان ‏{‏غير مأمون *‏}‏ أي لا ينبغي لأحد أن يأمنه، بل يجوز أن يحل به وإن بالغ في الطاعة لأن الملك مالك وهو تام الملك، له أن يفعل ما يشاء- ومن جوز وقوع العذاب أبعد عن موجباته غاية الإبعاد ولم يزل مترجحاً بين الخوف والرجاء‏.‏

ولما ذكر التحلي بتطهير النفس بالصلاة وتزكية المال بالصدقة، ندب إلى التخلي عن أمر جامع بين تدنيس المال والنفس وهو الزنا الحامل عليه شهوة الفرج التي هي أعظم الشهوات حملاً للنفس على المهلكات، فقال بعد ذكر التخويف بالعذاب إعلاماً بأنه أسرع إلى صاحب هذه القادورة وقوعاً من الذباب في أحلى الشراب فقال‏:‏ ‏{‏والذين هم‏}‏ أي ببواطنهم الغالبة على ظواهرهم ‏{‏لفروجهم‏}‏ أي سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً ‏{‏حافظون *‏}‏ أي حفظاً ثابتاً دائماً عن كل ما نهى الله عنه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 32‏]‏

‏{‏إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ‏(‏30‏)‏ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ‏(‏31‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

ولما ذكر هذا الحفظ على هذا الوجه، ذكر ما أذن فيه في أسلوب الاستثناء إشعاراً بأنه كأنه لم يذكر فيخرج إلا بعد تقرير عموم الحفظ لا أنه مقصود ابتداء بقصد الصفة فقال‏:‏ ‏{‏إلا على أزواجهم‏}‏ أي بعقد النكاح‏.‏

ولما قدمهن لشرفهن وشرف الولد بهن أتبعه قوله‏:‏ ‏{‏أو ما‏}‏ عبر بما هو الإغلب لغير العقلاء ندباً إلى إيساع البطان في احتمالهن ‏{‏ملكت أيمانهم‏}‏ أي من السراري اللاتي هن محل الحرث والنسل اللاتي هن أقل عقلاً من الرجال‏.‏

ولما كان الناكح عبادة نادراً جداً، وكان الأصل في العبادة الخروج عن العادة، وإن لم يتجرد للعبادة كن ملوماً، اكتفى في مدحه بنفي اللوم عنه، وأكده لأن الأصل كان استحقاقه للملام لإقباله على تحصيل ما له من المرام فقال مسبباً عن المستثنى‏:‏ ‏{‏فإنهم‏}‏ أي بسبب إقبالهم بالفروج عليهن وإزالة الحجاب من أجل ذلك ‏{‏غير ملومين *‏}‏ أي في الاستمتاع بهن من لائم ما- كما نبه عليه بالبناء للمفعول- فهم يصحبونهن قصداً للتعفف وصون النفس وابتغاء الولد للتعاون على طاعة الله‏.‏

ولما أفهم ذلك تحريم غير المستثنى ووجب الحفظ للفروج عنه، صرح به على وجه يشمل المقدمات فقال مسبباً عنه‏:‏ ‏{‏فمن ابتغى‏}‏ أي طلب، وعبر بصيغة الافتعال لأن ذلك لا يقع إلا عن إقبال عظيم من النفس واجتهاد في الطلب ‏{‏وراء ذلك‏}‏ أي شيئاً من هذا خارجاً عن هذا الأمر الذي أحله الله تعالى، والذي هو أعلى المراتب في أمر النكاح وقضاء اللذة أحسنها وأجملها‏.‏ ولما كان الوصول إلى ذلك لا يكون إلا بتسبب من الفاعل ربط بالفاء قوله‏:‏ ‏{‏فأولئك‏}‏ أي الذين هم في الحضيض من الدناءة وغاية البعد عن مواطن الرحمة ‏{‏هم‏}‏ أي بضمائرهم وظواهرهم ‏{‏العادون *‏}‏ أي المختصون بالخروج عن الحد المأذون فيه‏.‏

ولما ذكر العادي أتبعه الواقف عند الحدود فقال‏:‏ ‏{‏والذين هم‏}‏ أي ببذل الجهد من توجيه الضمائر ‏{‏لأماناتهم‏}‏ أي كل ما ائتمنهم الله عليه من حقه وحق غيره‏.‏

ولما كان ذلك قد يكون من غير عهد، قال مخصصاً‏:‏ ‏{‏وعهدهم‏}‏ أي ما كان من الأمانات بربط بالكلام وتوثيق ‏{‏راعون *‏}‏ أي حافظون لها معترفون بها على وجه نافع غير ضار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 38‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ ‏(‏33‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ‏(‏34‏)‏ أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ‏(‏35‏)‏ فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ‏(‏36‏)‏ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ ‏(‏37‏)‏ أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ‏(‏38‏)‏‏}‏

ولما كان أجل العهود والأمانات ما كان بإشهاد قال مبيناً لفضل الشهادة‏:‏ ‏{‏والذين هم‏}‏ أي بغاية ما يكون من توجيه القلوب ‏{‏بشهاداتهم‏}‏ التي شهدوا بها أو يستشهدون بها لطلب أو غيره، وتقديم المعمول إشارة إلى أنهم في فرط قيامهم بها ومراعاتهم لها كأنهم لا شاغل لهم سواها ‏{‏قائمون *‏}‏ أي يتحملونها ويؤدونها على غاية التمام والحسن أداء من هو متهيئ لها واقف في انتظارها‏.‏

ولما كانت أضداد هذه المذكورات نقائص مهلكات، وكانت الأنفس- لما لها من النقص- نزاعة إلى النقائص ميالة إلى الدسائس، ذكر سبحانه بالدواء المبرئ من كل داء، فقال مشيراً إلى حفظ أحوال الصلاة وأوصافها بعد ذكر الحفظ لذواتها وأعيانها تنبيهاً على شدة الاهتمام بها‏:‏ ‏{‏والذين هم‏}‏ ولما وسط الضمير إشارة إلى الإقبال بجميع القلب قدم الصلة كما فعل بما قيل تأكيداً وإبلاغاً في المراد إلى أقصى ما يمكن كما لا يخفى على ذي ذوق فقال‏:‏ ‏{‏على صلاتهم‏}‏ من الفرض والنقل ‏{‏يحافظون *‏}‏ أي يبالغون في حفظها ويجددونه حتى كأنهم يبادرونها الحفظ ويسابقونها فيه فيحفظونها لتحفظهم أو يسابقون غيرهم في حفظها لأوقاتها وشروطها وأركانها ومتمماتها في ظواهرها وبواطنها من الخضوع والمراقبة، وغير ذلك من خلال الإحسان التي إذا فعلوها كانت ولا بد ناهية لفاعلها «أن الصلاة» الكاملة «تنهى عن الفحشاء والمنكر» فتحمل على جميع هذه الأوامر وتبعد عن أضدادها، ولكون السياق هذا للتخلي عن الأوصاف الجارة إلى الكفر وحد الصلاة إشارة إلى أنه يكفي في ذلك الفرائض وإن كان الجاس يشمل، وفي المؤمنون السياق لأهل الرسوخ في المحاسن، فلذلك جمع بين النوعين‏:‏ الإفراد في الأول لينصب بادئ بدئ إلى الفرائض، والجمع في بعض القراءات ليفهم مع ذلك النوافل بأنواعها، وفي فتح الأوصاف بالصلاة وختمها بها من بيان جلالتها وعظمتها أمر باهر‏.‏

ولما ذكر حلاهم أتبعه ما أعطاهم فقال مستأنفاً ومستنتجاً من غير فاء إشارة إلى أن رحمته هي التي أوصلتهم إلى ذلك من غير سبب منهم في الحقيقة‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي الذين هم في غاية العلو لما لهم من هذه الأوصاف العالية، وعبر بما يدل على أنه عجل جزاءهم سبحانه فقال‏:‏ ‏{‏في جنات‏}‏ أي في الدنيا والآخرة، أما في الآخرة فواضح، وأما في الدنيا فلأنهم لما جاهدوا فيه بإتعاب أنفسهم في هذه الأوصاف حتى تخلقوا بها أعطاهم بمباشرتها لذاذات من أنس القرب وحلاوة المناجاة لا يساويها شيء أصلاً، والجنة محل اجتمع فيه جميع الراحات والمستلذات والسرور، وانتفى عنه جميع المكروهات والشرور، وضدها النار، وزادهم على ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏مكرمون *‏}‏ معبراً باسم المفعول إشارة إلى عموم الإكرام من الخالق والخلق الناطق وغيره لأنه سبحانه قضى بأن يعلو مقدارهم حتى يكونوا أعظم مشخص‏؟‏ لهم في الغيب مبالغاً في إكرامهم عند المواجهة ليكون لهم نصيب من خلق نبيهم صلى الله عليه وسلم، «لقيه يوم بني قريظة علي رضي الله عنه وكان قد سبقه إليهم فقال‏:‏ يا رسول الله، ما عليك ألا تدنو من هؤلاء الأخابث‏؟‏ فقال‏:‏ ولم، لعلك سمعت بي منهم أذى، لو قد دنوت منهم لم يقولوا من ذلك شيئاً، ثم دنا منهم فقال‏:‏ هل أخزاكم الله يا إخوان القردة والخنازير، فقالوا‏:‏ مه يا أبا القاسم ما كنت جهولاً» وكلموه بأحسن ما يمكنهم، وكذا كانت معه قريش قبل الهجرة في أكثر أحوالهم، هذا في الدنيا وأما في الآخرة فيتلقاهم الملائكة بالبشرى حين الموت وفي قبورهم ومن حين قيامهم من قبورهم إلى حين دخولهم إلى قصورهم‏.‏

ولما تحرر بهذا الكلام الإلهي الذي يشك عاقل في أن مخلوقاً لا يقدر عليه، وأنه لا يقدر عليه إلا الله الواحد الذي لا شريك له، العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، أنه لا يتفصى عن نقائص الإنسان حتى يتخلص من ظلمات النقصان إلى نور الإحسان إلا من لازم هذه الأوصاف وزكى نفسه بها ليصير كاملاً مع العلم القطعي عند المسلم والكافر أن الكمال سبب السعادة، وأن الإنسان مطبوع على ما صدر به سبحانه من النقائص، علم أن المتصفين بهذه الأوصاف هم المختصون بالسعادة الأخروية، وكان الكفار يأتون النبي صلى الله عليه وسلم ويجلسون حوله بالقرب منه ليسمعوا كلامه ويكذبوه ويهزؤوا به، وكان العاقل لا ينبغي له أن يأتي شيئاً لا سيما إن كان إتيانه إليه على هيئة الإسراع إلا لتحصيل السعادة، سبب عن ذلك قوله معبراً عن عظمة القرآن بما حاصله أنهم حين يسمعونه يصيرون لشدة ما يفزعهم أمره لا يتمالكون فيفعلون أفعال من لا وعي له‏:‏ ‏{‏فمال الذين كفروا‏}‏ أي أي شيء من السعادة للذين ستروا مرائي عقولهم عن الإقرارا بمضمون هذا الكلام الذي هو أوضح من الشمس، حال كونهم ‏{‏قبلك‏}‏ أي نحوك أيها الرسول الكريم وفيما أقبل عليك ‏{‏مهطعين *‏}‏ أي مسرعين مع مد الأعناق وإدامة النظر إليك في غاية العجب من مقالك هيبة من يسعى إلى أمر لا حياة له بدونه‏.‏

ولما كان الذي يتطير فيراعي الأيامن والأشائم على ما تقدم في الصافات، لا يترك ذلك إلا في أمر أدهش عقله وأطار لبه، فلم يدعه يتأمل، قال مشيراً إلى شدة اعتنائهم بهذا الإهطاع مع عدم التحفظ من شيء‏:‏ ‏{‏عن‏}‏ أي متجاوزين إليك كل مكان كان عن جهة ‏{‏اليمين‏}‏ أي منك حيث يتمنون به ‏{‏وعن الشمال‏}‏ أي منك وإن كانوا يتشاءمون به ‏{‏عزين *‏}‏ أي حال كونهم جماعات جماعات وخلقاً خلقاً متفرقين فرقاً شتى أفواجاً يتمهلون ليأتوا جميعاً جمع عزة، وأصلها عزوة لأن كل فرقة تعتزي إلى غير ما تعتزي إليه الأخرى، جمع جمع سلامة شذوذاً‏.‏

ولما كان هذا الإسراع على هذا الوجه لا ينبغي أن يكون إلا فيما يتحقق أنه مسعد، ومع تحقق أنه مسعد لا ينبغي أن يكون إلا فيما تحصل به السعادة الأبدية؛ قال منبهاً على ذلك منكراً أن يكون لهم ما كان ينبغي ألا يكون فعلهم ذلك إلا له مع أنه كان من جملة استهزائهم إذا تحلقوا لسماع ما يقرأ أن يقولوا‏:‏ إن كان ما يقول حقاً من أمر البعث والجنة لنكونن أسعد بها منهم كما أنا أسعد منهم في هذه الدار كما قال تعالى حاكياً عنهم في قوله‏:‏ ‏{‏ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 50‏]‏ وذلك أنه كثيراً ما يأتي الغلط من أن الإنسان يكون في خير في الدنيا فيظن أن ذلك مانع له من النار لأنه خير في نفس الأمر، أو يظن أن إمهاله وهو على الباطل رضي به، ولا يدري أنه لا يضجر ويقلق ويعجل إلا من يخاف الفوت، أو يكون شيء بغير إرادته‏:‏ ‏{‏أيطمع‏}‏ أي بهذا الإتيان، وعبر بالطمع إشارة إلى أنهم بلغوا الغاية في السفه لكونهم طلبوا أعز الأشياء من غير سبب تعاطوه له‏.‏

ولما كان إتيانهم على هيئة التفرق من غير انتظار جماعة لجماعة قال‏:‏ ‏{‏كل امرئ منهم‏}‏ أي على انفراده، ولما كان المحبوب دخول الجنة لا كونه من مدخل معين، قال بانياً للمفعول‏:‏ ‏{‏أن يدخل‏}‏ أي بالإهطاع وهو كافر من غير إيمان يزكيه كما يدخل المسلم فيستوي المسيء والمحسن ‏{‏جنة نعيم *‏}‏ أي لا شيء فيها غير النعيم في كل ما فيها على تقدير ضبطه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 44‏]‏

‏{‏كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ‏(‏39‏)‏ فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ ‏(‏40‏)‏ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ‏(‏41‏)‏ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ‏(‏42‏)‏ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ‏(‏43‏)‏ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

ولما كان معنى الاستفهام الإنكاري المفيد للنفي‏:‏ لا يدخل، أكد ذلك مع إفهام الضجر والاستصغار بالإتيان بأم الزواجر والروادع فقال‏:‏ ‏{‏كلا‏}‏ أي لا يكون ما طمعوا فيه أصلاً لأن ذلك تمن فارغ لا سبب له- بما دل عليه التعبير بالطمع دون الرجاء‏.‏

ولما كان الإنسان إذا أكثر من شيء وجعله ديدنه فساغ عندهم أن يقال‏:‏ فلان خلق من كذا، علل ذلك بقوله مؤكداً، عدّاً لهم منكرين لأنهم مع علمهم بنقصانهم يدعون الكمال‏:‏ ‏{‏إنا‏}‏ على ما لنا من العظمة ‏{‏خلقناهم‏}‏ بالعظمة التي لا يقدر أحد أن يقاويها فيصرف شيئاً من إرادته عن تلك الوجهة التي وجهته إليها إلى غيرها ‏{‏مما يعلمون *‏}‏ أي مما يستحي من ذكره ذاتاً ومعنى، أما الذات فهو نطفة مذرة أخرجت من مخرج البول وغذيناها بدم الحيض، فهي يتحلب منها البول والعذرة، وأما المعنى فالهلع والجزع والمنع اللاتي هم موافقون على عدها نقائص، فلا يصلحون لدار الكمال إلا بتزكية أنفسهم بما تقدم من هذه الخلال التي حض عليها الملك المتعال، روى البغوي بسنده عن بشر بن جحاش رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «وبصق يوماً في كفه ووضع عليها أصبعه فقال‏:‏» يقول عز وجل‏:‏ ابن آدم‏!‏ أنّى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين والأرض منك وئيد وجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت‏:‏ أتصدق، وأنّى أوان الصدقة «» انتهى‏.‏

ولما كان في ذكر هذا الخلق مع ما تقدم إشارة عظيمة إلى ما كانوا يقولون‏:‏ إنه إن كان الأمر كما يقولون من الحشر والجنة لنكونن آثر عند الله منكم ولندخلنها كما نحن الآن آثر منكم عنده بما لنا من الأموال، والبسطة في الدنيا والوجاهة والإقبال، وتنبيه على أن الكل متساوون في أنهم من نطفة فما فضلهم في هذه الدنيا بهذه النعم الظاهرة إلا هو سبحانه، وقد فضل المؤمنين بالنعم الباطنة التي زادتهم في التمكن فيها التزكية بهذه الأوصاف العملية الناشئة عن الصفة العلمية، وهو قادر على أن يضم إلى النعم الباطنة النعم الظاهرة، ولذلك سبب عنه قوله‏:‏ وأكد بنفي القسم المشير إلى عدم الحاجة إليه لكثرة الأدلة المغنية عنه لما لذلك المقسم عليه من الغرابة في ذلك الوقت لكثرة الكفار وقوة شوكتهم‏:‏ ‏{‏فلا‏}‏ أي فتسبب عن خلقنا لهم من ذلك المنبه على أنا نقدر على كل شيء نريده وأنه لا يعجزنا شيء أي لا ‏{‏أقسم‏}‏ فلفت القول إلى أفراد الضمير معرى عن مظهر العظمة لئلا يتعنت متعنت في أمر الواحدانية ‏{‏برب‏}‏ أي مربي وسيد ومبدع ومدبر ‏{‏المشارق‏}‏ التي تشرق الشمس والقمر والكواكب السيارة كل يوم في موضع منها على المنهاج الذي دبره، والقانون القويم الذي أتقنه وسخره، ستة أشهر صاعدة وستة أشهر هابطة ‏{‏والمغارب‏}‏ كذلك على هذا الترتيب المحكم الذي لا يعتريه اختلال، وهي التي ينشأ عنها الليل والنهار والفصول الأربعة، فكان بها صلاح العالم بمعرفة الحساب وإصلاح المآكل والمشارب وغير ذلك من المآرب، فيوجد كل من الملوين بعد أن لم يكن والنبات من النجم والشجر كذلك عادة مستمرة دالة على أنه قادر على الإيجاد والإعدام لكل ما يريده كما يريده من غير كلفة ما‏.‏

ولما كان المعنى‏:‏ لا أقسم بذلك وإن كان عظيماً لأن الأمر في وضوحه لا يحتاج إلى قسم، كما لو قال خصم لخصمه‏:‏ احلف، فيقول له‏:‏ الأمر غني عن حلفي إذ يحتاج إلى اليمين من لا بينة له، ثم يأتي من البينات بما لا يكون معه شبهة، وكانوا في تفضيل أنفسهم- مع الاعتراف لله بالقدرة- كالمنكرين للقدرة على قلب الأمر، أكد قوله عائداً إلى مظهر العظمة بعد دفع اللبس بما هو في وضوحه أجلى من الشمس‏:‏ ‏{‏إنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏لقادرون *‏}‏ بأنواع التأكيد بالأداة والأسمية والالتفات إلى مظهر العظمة في كل من الاسم والخبر، فكان في إخباره بعد الإقسام مع التأكيد إشارة إلى أعلى مراتب التأكيد ‏{‏على أن نبدل‏}‏ أي تبديلاً عظيماً بما لنا من الجلالة عوضاً عنهم ‏{‏خيراً منهم‏}‏ أي بالخلق أو تحويل الوصف فيكونوا أشد بسطة في الدنيا وأكثر أموالاً وأولاداً وأعلى قدراً وأكثر حشماً ووجاهة وحزماً وخدماً، فيكونوا عندك خلقاً على قلب واحد في سماع قولك وتوقيرك وتعظيمك والسعي في كل ما يشرح صدرك بدل ما يعمل هؤلاء من الهزء والتصفيق والصفير وكل ما يضيق به صدرك، وقد فعل ذلك سبحانه بالمهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان بالسعة في الرزق بأخذ أموال الجبارين من كسرى وقيصر، والتمكن في الأرض حتى كانوا ملوك الدنيا مع العمل بما يوجب لهم ملك الآخرة، فرجوا الكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبذلوا في مرضاته الأنفس والأموال‏.‏

ولما كان الإنسان قد يفعل شيئاً ثم ينقض عليه، أخبر أنه سبحانه على غير ذلك فقال‏:‏ ‏{‏وما‏}‏ وأكد الأمر بالأسمية الكائنة في مظهر العظمة فقال‏:‏ ‏{‏نحن‏}‏ وأعرق في النفي فقال‏:‏ ‏{‏بمسبوقين *‏}‏ أي من سابق ما يغلب على شيء لم نرده بوجه من الوجوه، ولذلك أتى باسم المفعول‏.‏

ولما ثبت أن له سبحانه العظمة البالغة الباهرة من شمول العلم وتمام القدرة، فأنتج اعتماد أهل حزبه عليه وإعراضهم عن كل ما سواه، سبب عن ذلك قوله تهديداً للمخالفين وتسلية للمؤالفين‏:‏ ‏{‏فذرهم‏}‏ أي اتركهم ولو على أسوأ أحوالهم ‏{‏يخوضوا‏}‏ أي يفعلوا في مقالهم وفعالهم الذي لا شيء منه على إتقان بل هو كفعل الخائض في الماء الذي لا يضع رجله في موضع يعلم أنه يرضيه، فهو بصدد أن يقع أو يغرق ‏{‏ويلعبوا‏}‏ أي يفعل فعل اللاعب الذي لا فائدة لفعله إلا ضياع الزمان والتعطل عما يهم من عظيم الشأن‏.‏

ولما كان ما توعد الله من أحوال الآخرة لا بد من وقوعه كان كأنه قادم على الإنسان والإنسان ساع بجهده إليه، فلذلك عبر بالمفاعلة فقال‏:‏ ‏{‏حتى يلاقوا‏}‏ ولما كان ما يقع للكفار منه أعظم، كان ذلك اليوم كأنه خاص بهم فقال‏:‏ ‏{‏يومهم الذي‏}‏ ولما كان الوعيد- وهو ما كان من الخبر تخويفاً للمتوعد- صادعاً للقلوب إذا كان من القادر من غير حاجة إلى ذكر المتوعد، بني المفعول قوله‏:‏ ‏{‏يوعدون *‏}‏ وهو يوم كشف الغطاء الذي أول تجليته عند الغرغرة ونهايته النفخة الثانية إلى دخول كل من الفريقين في داره ومحل استقراره، والآية منسوخة بآية السيف‏.‏

ولما كان ما بعد النفخة الثانية أعظمه وأهوله، أبدل منه قوله‏:‏ ‏{‏يوم يخرجون‏}‏ أي هؤلاء الذين يسألون عنه سؤال استهزاء ويستبعدونه، وقراءة أبي بكر عن عاصم بالبناء للمفعول على طريقة كلام القادرين تدل على أنه مما هو في غاية السهولة ‏{‏من الأجداث‏}‏ أي القبور التي صاروا بتغيبهم فيها تحت وقع الحافر والخف، فهم بحيث لا يدفعون شيئاً يفعل بهم بل هم كلحم في فم ماضغ، فإن الجدث القبر والجدثة صوت الحافر والخف ومضغ اللحم ‏{‏سراعاً‏}‏ أي نحو صوت الداعي‏.‏

ولما كانت عادة الإنسان الإسراع إلى ما يقصده من الأعلام المنصوبة، وعادتهم- هم بالخصوص- المبادرة إلى الأنصاب التي يبعدونها ما هي عليه من الخساسة خفة منهم في العلوم وطيشاً في الحلوم قال‏:‏ ‏{‏كأنهم إلى نصب‏}‏ أي علم منصوب مصدر بمعنى المفعول كما تقول‏:‏ هذا نصب عيني وضرب الأمير- هذا على قراءة الجماعة بالفتح، وعلى قراءة ابن عامر وحفص بالضم‏:‏ إلى علم أو شيء يعبدونه من دون الله على ما فيه من الداء القاتل والبلاء، أو حجر يذبحون عليه، قال في الجمع بين العباب والمحكم‏:‏ النَصْب والنُصْب والنُصُب‏:‏ الداء والبلاء‏:‏ والنُصُب كل ما نصب فجعل علماً، والنَصْب والنَصَب‏:‏ العلم المنصوب، والنُصْب والنُصُب‏:‏ كل ما عبد من دون الله، والجمع أنصاب، والأنصاب حجارة كانت حول الكعبة تنصب فيهل عليها ويذبح عليها لغير الله، وانصاب الحرم‏:‏ حدوده، وقال أبو حيان‏:‏ والنصب ما نصب للإنسان فهو يقصده مسرعاً إليه من علم أو بناء أو صنم، وغلب في الأصنام حتى قيل‏:‏ الأنصاب ‏{‏يوفضون *‏}‏ أي يعجلون عجلة من هو ذاهب إلى ما يسره حتى كأنه يطرد إليه كما كانوا يسرعون إلى أنصابهم‏.‏

ولما كان إيفاضهم إلى الأنصاب على حال السرور، أخبر أن هذا على خلاف ذلك، وأن ذكر النصب وتصوير حالة الإتيان إليه ما كان إلا تهكماً بهم فقال‏:‏ ‏{‏خاشعة‏}‏ أي منكسرة متواضعة لما حل بها من الذل والصغار، وألحقها علامة التأنيث زيادة في هذا المعنى ومبالغة فيه بقوله‏:‏ ‏{‏أبصارهم‏}‏‏.‏

ولما كان خشوعها دائماً فعبر بالاسم، وكان ذلهم يتزايد في كل لحظة، عبر بالفعل المضارع المفيد للتجدد والاستمرار فقال‏:‏ ‏{‏ترهقهم‏}‏ أي تغشاهم فتعمهم، وتحمل عليم فتكلفهم كل عسر وضيق على وجه الإسراع إليهم ‏{‏ذلة‏}‏ ضد ما كانوا عليه في الدنيا لأن من تعزز في الدنيا على الحق ذل في الآخرة، ومن ذل للحق في الدنيا عز في الآخرة‏.‏

ولما صوره بهذه الصورة أشار إلى أن هذا ما تدركه العقول من وصفه وأنه أعظم من ذلك فقال‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الأمر الذي هو في غاية ما يكون من علو الرتبة في العظمة ‏{‏اليوم الذي كانوا‏}‏ أي في حال الدنيا على غاية ما يكون من المكنة في الوعيد‏.‏

ولما كان الوعيد لا يتحقق إلا إذا كان من القادر، وإذا كان كذلك كان مخيفاً موجعاً من غير ذكر من صدر عنه، بني للمفعول قوله‏:‏ ‏{‏يوعدون *‏}‏ أي يجدد لهم الإيعاد به في الدنيا في كل وقت لعلهم يتعظون فترق قلوبهم فيرجعون عماهم فيه من الجبروت، وهذا هو زمان العذاب الذي سألوا عنه أول السورة، فقد رجع كما ترى آخرها على أولها أي رجوع، وانضم مفصلها إلى موصلها انضمام المفرد إلى المجموع- والله الهادي إلى الصواب‏.‏

سورة نوح

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏1‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏2‏)‏ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ ‏(‏3‏)‏ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

ولما ختمت «سأل» بالإنذار للكفار، وكانوا عباد أوثان، بعذاب الدنيا والآخرة، أتبعها أعظم عذاب كان في الدنيا في تكذيب الرسل بقصة نوح عليه السلام، وكان قومه عباد أوثان، وكانوا يستهزئون به وكانوا أشد تمرداً من قريش وأجلف وأقوى وأكثر، فلم ينفعهم شيء من ذلك عند نزول البلاء وبروك النقمة عليهم وإتيان العذاب إليهم، وابتدأها بالإنذار تخويفاً من عواقب التكذيب به، فقال مؤكداً لأجل إنكاهرم أن يكون الرسول بشراً أو لتنزيلهم منزلة المنكرين من حيث أقروا برسالته وطعنوا في رسالة غيره مع المساواة في البشرية‏:‏ ‏{‏إنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة الباهرة البالغة ‏{‏أرسلنا نوحاً‏}‏ وهو أول رسول أتى بعد اختلاف أولاد آدم عليه السلام في دين أبيهم الأقوم ‏{‏إلى قومه‏}‏ أي الذين كانوا في غاية القوة على القيام بما يحاولونه وهم بصدد أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه ويكرموه لما بينهم من القرب بالنسب واللسان، وكانوا جميع أهل الأرض من الآدميين‏.‏

ولما بان مضى المرسِل والرسول والمرسَل إليهم، وكان الإرسال متضمناً معنى القول، أخذ في تفسيره بياناً للمرسل به فقال‏:‏ ‏{‏أن أنذر‏}‏ أي حذر تحذيراً بليغاً عظيماً ‏{‏قومك‏}‏ من الاستمرار على الكفر‏.‏

ولما كان المقصود «إعلامهم بذلك» في بعض الأوقات لأن الإنسان لا بد له من أوقات شغل بنفسه من نوم وأكل وغيره، أتى بالجار تخفيفاً عليه ورفقاً به عليه السلام فقال‏:‏ ‏{‏من قبل أن يأتيهم‏}‏ أي على ما هم عليه من الأعمال الخبيثة ‏{‏عذاب أليم *‏}‏‏.‏

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير‏:‏ لما أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر على قومه في قوله‏:‏ ‏{‏فاصبر صبراً جميلاً‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 5‏]‏ وجليل الإغضاء في قوله‏:‏ ‏{‏فذرهم يخوضوا ويلعبوا‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 42‏]‏ أتبع ذلك بقصة نوح عليه السلام وتكرر دعائه قومه إلى الإيمان، وخص من خبره حاله في طول مدة التذكار والدعاء لأنه المقصود في الموضع تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم، وليتأسى به في الصبر والرفق والدعاء كما قيل له صلى الله عليه وسلم في غير هذا الموضع ‏{‏فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 35‏]‏ ‏{‏فلا تذهب نفسك عليهم حسرات‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 8‏]‏ فقد دام دعاء نوح عليه السلام مع قومه أدوم من مدتك، ومع ذلك فلم يزدهم إلا فراراً ‏{‏قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً فلم يزدهم دعائي إلا فراراً وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 5- 7‏]‏ ثم مضت آي السورة على هذا المنهج من تجديد الإخبار بطول مكابدته عليه السلام وتكرير دعائه، فلم يزدهم ذلك إلا بعداً وتصميماً على كفرهم حتى أخذهم الله، وأجاب فيهم دعاء نبيه نوح عليه السلام

‏{‏رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 26‏]‏ وذلك ليأسه من فلاحهم، وانجر في هذا حض نبينا صلى الله عليه وسلم على الصبر على قومه والتحمل منهم كما صرح به في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 199‏]‏ وكما قيل له قبل ‏{‏فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 48‏]‏ ‏{‏وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 120‏]‏ انتهى‏.‏

ولما أخبر عن رسالته ومضمونها بما أعلم من أن الفساد كان غالباً عليهم، استأنف قوله بياناً لامتثاله‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ أي نوح عليه السلام‏:‏ ‏{‏يا قوم‏}‏ فاستعطفهم بتذكيرهم أنه أحدهم يهمه ما يهمهم‏.‏

ولما كان من طبع البشر إنكار ما لم يعلم إلا من عصم الله فجعله منقاداً للإيمان بالغيب، أكد قوله‏:‏ ‏{‏إني لكم نذير‏}‏ أي مبالغ في النذارة ‏{‏مبين *‏}‏ أي أمري بين في نفسه بحيث أنه صار من شدة وضوحه كأنه مظهر لما يتضمنه، مناد بذلك للقريب والبعيد والفطن والغبي‏.‏

ولما كان ترك ما أنذرهم بسببه من الكفر لا يغنيهم إلا أن آمنوا، وكان الإيمان مخلصاً عن عواقب الإنذار لأنه لا يصح إلا مع ترك جميع أنواع الكفر، فسر الإنذار بقوله‏:‏ ‏{‏أن اعبدوا الله‏}‏ أي الملك الأعظم الذي له جميع الكمال، وذلك بأن تخلصوا التوجه إليه فإن غناه يمنع من أن يقبل عبادة فيه شرك وهذا هو الإيمان ‏{‏واتقوه‏}‏ أي اجعلوا بينكم وبين غضبه وقاية تمنعكم من عذابه بالانتهاء عن كل ما يكرهه، فلا تتحركوا حركة ولا تسكنوا سكنة إلا في طاعته، وهذا هو العمل الواقي من كل سوء‏.‏

ولما كان لا سبيل إلى معرفة ما يرضي الملك ليلزم وما يسخطه ليترك إلا منه، ولا وصول إلى ذلك إلا من خاصته، ولا خاصة مثل رسوله الذي ائتمنه على سره قال‏:‏ ‏{‏وأطيعون *‏}‏ أي لأعرفكم ما تقصر عنه عقولكم من صفات معبودكم ودينكم ودنياكم ومعادكم، وأدلكم على اجتلاب آداب تهديكم، واجتناب شبهة ترديكم، ففي طاعتي، فلا حكم يرضي الملك عنكم، وهذا هو الإسلام، فقد جمع هذا الدعاء الإيمان والإسلام والعمل، وهي الأثافي التي تدور عليها أسباب الفلاح‏.‏

ولما كان الإنسان محل النقصان، فلا ينفك عن ذنب فلا ينفعه إلا فناء الكرم، أشار إلى ذلك مرغباً مستعطفاً لهم لئلا ييأسوا فيهلكوا بقوله جواباً للأمر‏:‏ ‏{‏يغفر لكم‏}‏ أي كرماً منه وإحساناً ولطفاً‏.‏

ولما كان من الذنوب ما لا يتحتم غفرانه وهو ما بعد الإسلام قال‏:‏ ‏{‏من ذنوبكم‏}‏ أي ما تقدم الإيمان من الشرك والعصيان وما تأخر عن الإيمان من الصغائر التي تفضل الله بالوعد بتكفيرها باجتناب الكبائر- هذا مما أوجبه سبحانه على نفسه المقدس بالوعد الذي لا يبدل، وأما غيره مما عدا الشرك فإلى مشيئته سبحانه‏.‏

ولما كان الإنسان، لما يغلب عليه من النسيان، والاشتغال بالآمال، يعرض عن الموت إعراض الشاك فيه بل المكذب به ذكرهم ترهيباً لهم لطفاً بهم ليستحضروا أنهم في القبضة فينزعوا مما يغضبه سبحانه، فقال مشيراً إلى أن طول العمر في المعصية- وإن كان مع رغد العيش- عدم، مهدداً بأنه قادر على الإهلاك في كل حين‏:‏ ‏{‏ويؤخركم‏}‏ أي تأخيراً ينفعكم، واعلم أن الأمور كلها قد قدرت وفرغ من ضبطها لإحاطة العلم والقدرة فلا يزاد فيها ولا ينقص، ليعلم أن الإرسال إنما هو مظهر لما في الكيان ولا يظن أنه قالب للأعيان بتغيير ما سبق به القضاء من الطاعة أو العصيان فقال‏:‏ ‏{‏إلى أجل مسمى‏}‏ أي قد سماه الله وعلمه قبل إيجادكم فلا يزاد فيه ولا ينقص منه، فيكون موتكم على العادة متفرقاً وإلا أخذكم جميعاً بعذاب الاستئصال، فهذا من علم ما لا يكون لو كان كيف يكون، وذلك أنه علم أنهم إن أطاعوا نوحاً عليه السلام كان موتهم على العادة وإلا هلكوا هلاك نفسه واحدة، وعلم أنهم لا يطيعونه، وأن موتهم إنما يكون بعذاب الاستئصال‏.‏

ولما كان الإنسان مجبولاً على الأطماع الفارغة، فكان ربما قال للتعنت أو غيره‏:‏ لم لا يخلدنا‏؟‏ قال فطماً عن ذلك مؤكداً لاقتضاء المقام له‏:‏ ‏{‏إن أجل الله‏}‏ أي الذي له الكمال كله فلا راد لأمره ‏{‏إذا جاء لا يؤخر‏}‏ وأما قبل مجيئه فربما يقع الدعاء والطاعات والبر في البركة فيه يمنع الشواغل وإطابة الحياة، فبادروا مجيء الأجل بالإيمان لأنه إذا جاء لم يمكنكم التدارك، ولا ينفعكم بعد العيان الإيمان‏.‏

ولما كان من يعلم هذا يقيناً، ويعلم أنه إذا كشف له عند الغرغرة أحب أن يؤخر ليتوب حين لا تأخير، أحسن العمل خوفاً من فوات وقته وتحتم مقته، نبه على ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏لو كنتم تعلمون *‏}‏ أي لو كان العلم أو تجدده وقتاً ما في غرائزكم لعلمتم تنبيه رسولكم صلى الله عليه وسلم أن الله يفعل ما يشاء، وأن الأجل آت لا محالة فعملتم للنجاة، ولكنكم تعملون في الانهماك في الشهوات عمل الشاك في الموت‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 7‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا ‏(‏5‏)‏ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا ‏(‏6‏)‏ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ‏(‏7‏)‏‏}‏

ولما كان صلى الله عليه وسلم أطول الأنبياء عمراً، وكان قد طال نصحه لهم وبلاؤه بهم، نبه على ذلك بقوله مستأنفاً‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ منادياً لمن أرسله لأنه تحقق أن لا قريب منه غيره، وأسقط أداة النداء كما هي عادة أهل القرب فقال‏:‏ ‏{‏رب‏}‏ ولما كانت العادة جارية بأن التكرار لا بد أن يؤثر ولو قليلاً، فكانت مخالفتهم لذلك مما هو أهل لأن يشك فيه، قال مؤكداً إظهاراً لتحسره وحرقته عليه الصلاة والسلام منهم في تماديهم في إصرارهم على على التكذيب شكاية لحاله إلى الله تعالى واستنصاراً به واستمطاراً للتنبيه على ما يفعل به بذله الجهد وتنبيهاً لمن يقص به عليهم هذا وإن كان المخاطب سبحانه عالماً بالسر وأخفى‏:‏ ‏{‏إني دعوت‏}‏ أي أوقعت الدعاء إلى الله سبحانه وتعالى بالحكمة والموعظة الحسنة ‏{‏قومي‏}‏ أي الذين هم جديرون بإجابتي لمعرفتهم بي وقربهم من وفيهم قوة المحاولة لما يريدون‏.‏

ولما كان قد عم جميع الأوقات بالدعاء قال‏:‏ ‏{‏ليلاً ونهاراً *‏}‏ فعبر بهذا عن المداومة‏.‏

ولما تسبب عن ذلك ضد المراد قال‏:‏ ‏{‏فلم يزدهم دعاءي‏}‏ أي شيئاً من أحوالهم التي كانوا عليها ‏{‏إلا فراراً *‏}‏ أي بعداً عنك ونفوراً وبغضاً وإعراضاً حتى كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة، وأسند الزيادة إلى الدعاء لأنه سببها‏.‏

ولما كان الفرار مجازاً عن رد كلامه، عطف عليه ما يبينه، فقال مؤكداً لأن إعراضهم مع هذا الدعاء الطويل مما لا يكاد يصدق‏:‏ ‏{‏وإني كلما‏}‏ على تكرار الأوقات وتعاقب الساعات ‏{‏دعوتهم‏}‏ أي إلى الإقبال عليك بالإيمان بك والإخلاص لك‏.‏

ولما كان إعراضهم عما ينفعهم أقبح، ذكر ما يتسبب عن الإجابة بالإيمان فقال‏:‏ ‏{‏لتغفر لهم‏}‏ أي ليؤمنوا فتمحو ما فرطوا فيه في حقك فأفرطوا لأجله في التجاوز في الحدود محواً بالغاً فلا يبقى لشيء من ذلك عيناً ولا أثراً حتى لا تعاقبهم عليه ولا تعاتبهم ‏{‏جعلوا‏}‏ أي في كل دعاء، ودل على مبالغتهم في التصامم بالتعبير بالكل عن البعض فقال‏:‏ ‏{‏أصابعهم‏}‏ كراهة له واحتقاراً للداعي ‏{‏في آذانهم‏}‏ حقيقة لئلا يسمعون الدعاء إشارة إلى أنا لا نريد أن نسمع ذلك منك، فإن أبيت إلا الدعاء فإنا لا نسمع لسد أسماعنا، ودلوا على الإفراط في كراهة الدعاء بما ترجم عنه قوله‏:‏ ‏{‏واستغشوا ثيابهم‏}‏ أي أوجدوا التغطية لرؤوسهم بثيابهم إيجاد من هو طالب لذلك شديد الرغبة فيه حتى يجمعوا بين ما يمنع السماع لكلامه والنظر إليه إظهاراً لكراهته وكراهة كلامه، وهكذا حال النصحاء مع من ينصحونه دائماً ‏{‏وأصروا‏}‏ أي داموا على سوء أعمالهم دواماً هم في غاية الإقبال عليه، من أصر الحمار على العانة- إذا صر أذنيه وأقبل عليها يطردها ويكدمها، استعير للإقبال على المعاصي وملازمتها لأنه يكون بغاية الرغبة كأن فاعله حمار وحش قد ثارت شهوته ‏{‏واستكبروا‏}‏ أي أوجدوا الكبر طالبين له راغبين فيه، وأكد ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏استكباراً *‏}‏ تنبيهاً على أن فعلهم منابذ للحكمة، فكان مما ينبغي أن لا يفعلوه فهو مما لا يكاد يصدق لذلك، وقد نادت هذه الآيات بالتصريح في غير موضع بأنهم عصوا نوحاً عليه الصلاة والسلام وخالفوه مخالفة لا أقبح منها ظاهراً بتعطيل الأسماع والأبصار، وباطناً بالإصرار والاستكبار ولم يوافقوه بقول ولا فعل، فلعنة الله عليهم وعلى من يقول‏:‏ إنهم وافقوه بالفعل، لأنه دعاهم للمغفرة وقد غطوا وجوههم، والتغطية هي الغفر ونحو ذلك من الخرافات التي لو سمعها أسخف عباد الحجارة الذين لا أسخف منهم لهزؤوا بقائلها، وما قال هذا القائل ذلك إلا تحريفاً لكتاب الله بنحو تحريف الباطنية الذين أجمعت الأمة على تكفيرهم لذلك التحريف، ولعنة الله على من يشك في كفر من يحرف هذا التحريف أو يتوقف في لعنه، وهم الاتحادية الذين مرقوا من الدين في آخر الزمان، ومن أكابرهم الحلاج وابن عربي وابن الفارض، وتبعهم على مثل الهذيان أسخف الناس عقولاً

‏{‏إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 44‏]‏ ولقد أخبرني الإمام العلامة برهان الدين إبراهيم بن أبي شريف القدسي الشافعي الثبت النحرير عن بعض من يتعصب لهم في هذا الزمان، وهو من أعيان المدرسين بالقاهرة، أنه قال له‏:‏ ما حملني على انتقادي لابن الفارض إلا أني رأيت كلام التائية له متناقضاً، فتارة يفهم منها الحلول وتارة الاتحاد، وهو عندي يحاشى عن ذلك، فعلمت أن لهؤلاء القوم اصطلاحاً نسبتنا منه نسبة التباين إذا سمعوا النحوي يقول‏:‏ الفاعل مرفوع، فإنهم يضحكون منه، ولو فهمنا اصطلاحهم لم نعترض- هذا معنى ما نقل عنه وهو ما لا يرضاه ذو مسكة، وهو شبيه بما نقل المسعودي في أوائل مروج الذهب عن بعض من اتهم بعقل وعلم من النصارى في زمن أحمد بن طولون، فاختبره فوجده في العلم كما وصف، فسأله عن سبب ثباته على النصرانية مع علمه فقال‏:‏ السبب تناقضها مع أنه دان بها ملوك متكبرون وعلماء متبحرون ورهبان عن الدنيا معرضون ومدبرون، فعلمت أنه ما جمع هؤلاء الأصناف على الدينونة بها مع تناقضها إلا أمر عظيم اضطرهم لذلك، فدنت بها، فقال له‏:‏ اذهب في لعنة الله فلقد ضيعت كل عقل وصفت، ولقد والله صدق في الأمر العظيم الذي حملهم على ذلك، وهو القضاء والقدرة الذي حمل كل أحد منهم على إلقاء نفسه في نار جهنم باختياره بل برغبته في ذلك ومقاتلة من يصده عن ذلك، وذلك أدل دليل على تمام علم الله وقدرته وأنه واحد لا شريك له ولا معقب لحكمه، وفي هذا تصديق قوله النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع» وهم أهل الكتاب، وقد أشبعت القول في هذا في كتابي «القارض في تكفير ابن الفارض» الذي بينت فيه عوارهم، وأظهرت عارهم، وكذا كتابي «صواب الجواب للسائل المرتاب» و«تدمير المعارض في تكفير ابن الفارض» ولم أبق على شيء من ذلك شيئاً من لبس- ولله الحمد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 13‏]‏

‏{‏ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ‏(‏8‏)‏ ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ‏(‏9‏)‏ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ‏(‏10‏)‏ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ‏(‏11‏)‏ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ‏(‏12‏)‏ مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ‏(‏13‏)‏‏}‏

ولما ذكر دعاءه في جميع الأوقات مع إعراضهم، وكان هذا مؤيساً وموجباً للإقلاع عن الدعاء، وإن وجد الدعاء بعده في غاية البعد منه على إيجاده مع الاستغراق به لجميع الحالات كما استغرق جميع الأوقات، فعبر بأداة التراخي للدلالة على تباعد الأحوال فقال‏:‏ ‏{‏ثم‏}‏ وأكد لنحو ما مضى من أن تجرد إقبالهم على دعائهم بعد ذلك لا يكاد يصدق فضلاً عن الإكثار منه فقال‏:‏ ‏{‏إني دعوتهم‏}‏ أي إلى الإيمان ومنابذة الشيطان‏.‏

ولما كان الجهر أحد نوعي الدعاء، نصبه به نصب المصدر فقال‏:‏ ‏{‏جهاراً *‏}‏ أي مكاشفة في فخامة الصوت والتعميم لجماعتهم جليلهم وحقيرهم والإخلاص في ذلك والمداومة له حتى كاد بصري يكل من شدة التحديث إليهم والإقبال عليهم من غير احتجاب عنهم ولا ارتقاب منهم بل مباغتة، وكررت ذلك عليهم حتى أخرجت ما عندهم من الجواب، ولم أكف عند سد آذانهم واستغشائهم ثيابهم‏.‏

ولما كان الجهر قد لا يشيع ولا ينشر في جماعاتهم، قال مشيراً إلى أنه أذاع ذلك، وأكد للإشارة إلى ما فيه من الشدة فقال‏:‏ ‏{‏ثم إني أعلنت‏}‏ أي أظهرت وأشعت وشهرت ليعلموا أنه الحق من ربهم لكوني لست مستحيياً منه ولا مستهجناً له ‏{‏لهم‏}‏ أي خصصتهم بذلك، لم يكن فيه حظ نفس بوجه فإني كررت ذلك عليهم بعد أن سقط الوجوب عني، ولما قدم الجهر لأنه أقرب إلى عدم الاتهام، وكان السر أجدر بمعرفة الضمائر وأقرب إلى الاستمالة، أتبعه به فقال‏:‏ ‏{‏وأسررت لهم‏}‏ أي دعوت كل واحد منهم على انفراده ليكون أدعى له وأجدر بقبوله النصيحة، وأدل على الإخلاص، وكل ذلك ما فعلته إلا لأجل نصيحتهم، لا حظ لي أنا في ذلك، ولما كان تحين الإنسان ليكون وحده ليس عنده أحد ولا هو مشتغل بصارف مما يعسر جداً فلا يكاد يصدق أكده فقال‏:‏ ‏{‏إسراراً *‏}‏ وليدل بتأكيده على تأكيد ما قبله من الأفعال، والظاهر من حاله ومن هذا الترتيب مما صرح به من الاجتهاد أنه سار فيه على مقتضى الحكمة، فدعا أولاً أقرب الناس إليه وأشدهم به إلفاً، ثم انتقل إلى من بعدهم حتى عمهم الدعاء، وكانت هذه الدعوة سراً كل واحد منهم على حدته ليعلموا نصحه ولا يحمل أحد منهم ذلك على تبكيت ولا تقريع، جهر ليعلموا أنه ملجأ من الله إلى ذلك، وأنها عزمة إن قصروا فيها عن الأجابة عوقبوا، فلما أصروا جمع بين السر والعلن، فلما تمادوا وطال الأذى شكى، وعلى هذا فثم لبعد الرتب لا للترتيب في الزمان، ويمكن كونها للترتيب لأن الجهر أبعد عن الاتهام ثم الإعلان بعده أزيد بعداً‏.‏

ولما أخبر بأنه بالغ في الدعوة إلى حد لا مزيد عليه، فلم يدع من الأوقات ولا من الأحوال شيئاً، سبب عنه بيان ما قال في دعوته وهو التسبب في السعادة كلها بدفع المضار وجلب المسار، فقال مقدماً لطلب الغفران بالتوبة عن الكفر ليظهروا فيكونوا قابلين للتحلية بالمحاسن الدينية بعد التخلية عن الأخلاق الدنية‏:‏ ‏{‏فقلت‏}‏ أي في دعائي لهم‏:‏ ‏{‏استغفروا ربكم‏}‏ أي اطلبوا من المحسن إليكم، المبدع لكم، المدبر لأموركم، أن يمحو ذنوبكم أعيانها وآثارها، بالرجوع عن عبادة غيره إلى الإخلاص في عبادته‏.‏

ولما ذكر أنه استعطفهم أولاً ببيان أن رجوعهم ممكن، لئلا يقولوا‏:‏ إنا قد بالغنا في المعاصي فلا نقبل، وأعلمهم أن الاستغفار باب الدخول إلى طاعة الجبار، أكد ذلك الاستعطاف بقوله معللاً للأمر ولجوابه بنحو‏:‏ يغفر لكم، مؤكداً لأجل توقفهم‏:‏ ‏{‏إنه كان‏}‏ أي أزلاً وأبداً ودائماً سرمداً ‏{‏غفاراً *‏}‏ أي متصفاً بصفة الستر على من رجع إليه على أبلغ الوجوه وأعلاها، وإذا وقع الغفران دفع المضار كلها‏.‏

ولما قرر أمر التوبة وبين قبولها وقدمه اهتماماً به لأنه أصل ما يبتنى عليه، ولأن التخلي قبل التحلي، ودرء المفاسد قبل جلب المصالح والفوائد، رغب فيها بما يكون عنها من الزيادة في الإحسان على أصل القبول، وينشأ عن الاستغفار من الآثار الكبار من الأفضال بجلب المسار بما هو مثال للجنة التي كان سبب الإخراج منها النسيان لأنهم أحب شيء في الأرباح الحاضرة والفوائد العاجلة لا سيما بما يبهج النفوس ويشرح الصدور لإذهابه البؤس، فقال مجيباً لفعل الأمر‏:‏ ‏{‏يرسل السماء‏}‏ أي المظلة الخضراء أو السحاب أو المطر ‏{‏عليكم‏}‏ أي بالمطر وأنواع البركات ‏{‏مدراراً *‏}‏ أي حال كونها كثيرة الدورة متكررته، وهذا البناء يستوي فيه المذكر والمؤنث ‏{‏ويمددكم‏}‏ أظهر لأن الموضع لإرادة المبالغة والبسط والسعة ‏{‏بأموال وبنين‏}‏ وذلك يفهم أن من اكثر الاستغفار حباه الله ما يسره، وحماه ما يضره ‏{‏ويجعل لكم‏}‏ أي في الدارين ‏{‏جنات‏}‏ أي بساتين عظيمة، وأعاد العامل للتأكيد والبسط لأن المقام له فقال‏:‏ ‏{‏ويجعل لكم أنهاراً *‏}‏ يخصكم بذلك عمن لم يفعل ذلك، فإن من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، روى أن عمر رضي الله عنه استسقى فلم يزد على الاستغفار فلما نزل قيل‏:‏ يا أمير المؤمنين‏!‏ ما رأيناك استسقيت‏؟‏ فقال‏:‏ لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء التي بها يستنزل القطر، ثم قرأ هذه الآية، وقال القشيري‏:‏ من وقعت له إلى الله حاجة فلن يصل إلى مراده إلا بتقديم الاستغفار، وقال‏:‏ إن عمل قوم نوح كان بضد ذلك، كلما ازداد نوح في الضمان ووجوه الخير والإحسان ازدادوا في الكفر والنسيان‏.‏

ولما كان من رجا ملكاً عمل بما يرضيه‏.‏ ومن خافة تجنب ما يسخطه، نبههم على ذلك بالإشارة إلى الجلال الموجب للتوقير والجمال بالإحسان إلى الخلق، مصرحاً لهم بالترغيب ملوحاً إلى الترهيب، فقال مستأنفاً في جواب من يقول منهم‏:‏ هل بقي شيء من قولك‏؟‏‏:‏ ‏{‏ما‏}‏ أي أيّ شيء يحصل ‏{‏لكم‏}‏ حال كونكم ‏{‏لا ترجون‏}‏ أي تكونون في وقت من الأوقات على حال تؤملون بها، وبين فاعل الوقار ومبدعه بتقديمه، فإنه لو أخره لكان ل «وقاراً» فقال‏:‏ ‏{‏لله‏}‏ أي الملك الذي له الأمر كله ‏{‏وقاراً *‏}‏ أي ثواباً يوقركم فيه ولو قل، فإن قليله أكثر من كثير غيره، ولا تخافون له إهانة بالعقاب بأن تعلموا أنه لا بد من أن يحاسبكم بعد البعث فيثيب الطائع ويعاقب العاصي، كما هي عادة كل أحد مع من تحت يده، فتوقروا رسله بتصديقهم فتؤمنوا وتعملوا، فإن من أراد من أحد أنه يوقره وقره وعظمه ليجازيه على ذلك، فإن الجزاء من جنس العمل، وذلك إنما يكون بمعرفة الله بما له من الجلال والجمال، والخلق إنما تفاضلوا بالمعرفة بالله، لا بالأعمال، إنما سبق أبو بكر رضي الله عنه الناس بشيء وقر في صدره، فإن بالمعرفة تزكو الأعمال وتصلح الأقوال، وإنما يصح تعظيمه سبحانه بأن لا ترى لك عليه حقاً، ولا تنازع له اختياراً، وتعظم أمره ونهيه، بعدم المعارضة بترخيص جاف أو تشديد غال أو حمل على توهم الانقياد، وتعظم حكمه بأن لا تبغي له عوجاً ولا تدافعه بعلم، ولا ينبغي له غرض وعلة، ولأجل أن المطلوب تحصيل الأعمال التي هي أسباب ظاهرية، عبر بالرجاء ليسرهم بأن أعمالهم مؤثرة، وعبر بالطمع في غير هذه الآية تنبيهاً على أنه لا سبب في الحقيقة إلا رحمة الله لحال دعاء إلى ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 21‏]‏

‏{‏وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ‏(‏14‏)‏ أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا ‏(‏15‏)‏ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ‏(‏16‏)‏ وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ‏(‏17‏)‏ ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا ‏(‏18‏)‏ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا ‏(‏19‏)‏ لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا ‏(‏20‏)‏ قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا ‏(‏21‏)‏‏}‏

ولما كان هذا إشارة إلى الاستدلال على البعث بما يعلمونه من أنفسهم صرح بعد ما لوح، فقال آتياً بحرف التوقع لأنه مقامه‏:‏ ‏{‏وقد‏}‏ أي والحال أنه قد أحسن إليكم مرة بعد مرة بما لا يقدر عليه غيره، فدل ذلك على تمام قدرته، ثم لم يقطع إحسانه عنكم فاستحق أن تؤمنوا به لأنه ‏{‏هل جزاء الإحسان إلا الإحسان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 60‏]‏ ورجاء لدوام إحسانه وخوفاً من قطعه لأنه ‏{‏خلقكم‏}‏ أي أوجدكم من العدم مقدرين ‏{‏أطواراً *‏}‏ أي تارات عناصر أولاً ثم مركبات تغذي الحيوان ثم أخلاطاً ثم نطفاً ثم علقاً ثم مضغاً ثم عظاماً ولحوماً وأعصاباً ودماء، ثم خلقاً آخر تاماً ناطقاً ذكراناً وإناثاً طوالاً وقصاراً بيضاً وسوداً وبين ذلك- إلى غير ذلك من الأمور الدالة على قدرته على كل مقدور، ومن قدر على هذا الابتداء كان على الإعادة أعظم قدرة، وقد ثبتت حكمته وأنه لم يخلق الخلق الخلق سدى بما بان من هذا التطوير على هذه الهيئات العجيبة التي لا قدرة لغيره عليها بوجه، وهم يتهارجون في هذه الدار تهارج الحمر، ويموت المظلوم على حاله، والظالم يبلغ آماله، فلا بد أن يعيدهم ليفصل بينهم فيظهر حكمته وعدله وإكرامه وفضله، ولو ترك ذلك لكان نقصاً في ملكه، ومن قدر على ذلك كان قادراً على الجزاء بالثواب والعقاب، فهو أهل لأن يخشى ويرجى‏.‏

ولما كان هذا واضحاً ولكنهم قوم لد، لا يردهم إلا الشمس المنيرة في وقت الظهيرة، ذكرهم- بعد التذكير بما في أنفسهم- بما هو أكبر من ذلك من آيات الآفاق وقسمها إلى علوي وسفلي، وبدأ بالأنفس لأنها مع شرفها أقرب منظور إليه لهم، وثنى بالعلوي لأنه يليها في الشرف ووضوح الآيات، فقال‏:‏ دالاًّ على القدرة على البعث والجزاء بالثواب والعقاب‏:‏ ‏{‏ألم تروا‏}‏ أي أيها القوم‏.‏

ولما كان تأمل الكيفيات يحتاج إلى دقة وتوقف على عجائب ولطائف تؤذن قطعاً بأن فاعلها لا يعجزه شيء، وقال منكراً عليهم عدم التأمل‏:‏ ‏{‏كيف خلق الله‏}‏ أي الذي له العلم التام والقدرة البالغة والعظمة الكاملة ‏{‏سبع سماوات‏}‏ هي في غاية العلو والسعة والإحكام والزينة، يعرف كونها سبعاً بما فيها من الزينة‏.‏

ولما كانت المطابقة بين المتقابلات في غاية الصعوبة لا يكاد يقدر عليها من جميع الوجوه أحد، قال‏:‏ ‏{‏طباقاً *‏}‏ أي متطابقة بعضها فوق بعض وكل واحدة في التي تليها محيطة بها «ما لها من فروج» لا يكون تمام المطابقة إلا كذلك بالإحاطة من كل جانب‏.‏

ولما كان المحيط لا يتوصل إلى داخله إلى محيط العلم والقدرة، قال دالاًّ على كمال قدرته وتصرفه معبراً بالجعل الذي يكون عن تصيير وتسبيب‏:‏ ‏{‏وجعل القمر‏}‏ أي الذي ترونه وهو في السماء الدنيا، وبدأ به لقربه وسرعة حركته وقطعه جميع البروج في كل شهر مرة وغيبته في ليالي السرار ثم ظهوره، وذلك أعجب في القدرة‏.‏

ولما كانت السماء شفافات قال‏:‏ ‏{‏فيهن‏}‏ أي السماوات جميعهن ‏{‏نوراً‏}‏ أي لامعاً منتشراً كاشفاً للمرئيات، أحد وجهيه يضيء لأهل الأرض والثاني لأهل السماوات، ولما كان نوره مستفاداً من نور الشمس قال‏:‏ ‏{‏وجعل‏}‏ معظماً لها بإعادة العامل ‏{‏الشمس‏}‏ أي في السماء الرابعة ‏{‏سراجاً *‏}‏ أي نوراً عظيماً كاشفاً لظلمه الليل عن وجه الأرض وهي في السماء الرابعة، وروى ابن مردويه وعبد الرزاق والطبري عن ابن عباس وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم‏:‏ «إن الشمس والقمر وجوههما مما يلي السماء، وأقفيتهما إلى الأرض»؛ وروى الحاكم منه ذكر القمر وجعلهما سبحانه آية على رؤية عباده المحسنين له في الجنة فإنه يرى كل أحد كلاًّ من مكانه مخلياً به، وكذلك يرونه سبحانه عياناً جهاراً كما رأوه في الدنيا بالإيمان نظراً واعتباراً، ولما دل على كمال علمه وتمام قدرته بخلق الإنسان ثم بخلق ما هو أكبر منه أعاد الدلالة بخلق الإنسان لأنه أعظم المحدثات وأدلها على الله سبحانه وتعالى على وجه آخر مبين لبعض ما أشار إليه الأول من التفصيل مصرحاً بالبعث فقال مستعيراً الإنبات للإنشاء‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الملك الأعظم الذي له الأمر كله ‏{‏أنبتكم‏}‏ أي بخلق أبيكم آدم عليه الصلاة والسلام ‏{‏من الأرض‏}‏ أي كما ينبت الزرع، وعبر بذلك تذكيراً لنا لما كان من خلق أبينا آدم عليه الصلاة والسلام لأنه أدل على الحدوث والتكون من الأرض، وأشار إلى أنه جعل غذءانا من الأرض التي خلقنا منها، وبذلك الغذاء نمونا‏.‏

ولما كان إنكارهم للبعث كأنه إنكار للابتداء أكده بالمصدر وأجراه على غير فعله بتجريده من الزيادة، إشارة إلى هوانه عليه سبحانه وتعالى وسهولته مع أنه إبداع وابتداء واختراع فقال‏:‏ ‏{‏نباتاً *‏}‏ ومع ذلك فالآية صالحة للاحتباك‏:‏ ذكر «أنبت» أولاً دال على حذف مصدره ثانياً، وذكر «النبات» ثانياً دال على حذف فعله أولاً، ليكون التقدير‏:‏ أنبتكم إنباتاً فنبتم نباتاً‏.‏

ولما كان في الموت أيضاً دليل على تمام العلم والقدرة غير أنه ليس كدلالة الابتداء بالابتداع، وكان مسلماً ليس فيه نزاع، ذكره من غير تأكيد بالمصدر فقال دالاًّ على البعث والنشور‏:‏ ‏{‏ثم يعيدكم‏}‏ على التدريج ‏{‏فيها‏}‏ أي الأرض بالموت والإقبار وإن طالت الآجال ‏{‏ويخرجكم‏}‏ أي فيها بالإعادة، وأكد بالمصدر الجاري على الفعل إشارة إلى شدة العناية به وتحتيم وقوعه لإنكارهم له فقل‏:‏ ‏{‏إخراجاً *‏}‏ أي غريباً ليس هو كما تعلمون بل تكونون به في غاية ما يكون من الحياة الباقية، تلابس أرواحكم بها أجسامكم ملابسة لا انفكاك بعدها لأحدهما عن الآخر‏.‏

ولما كان النابت من الشيء لا يتصرف في ذلك الشيء، دل على كمال قدرته بخرق تلك العادة لهم على وجه الإنعام عليهم، فقال مظهراً للاسم الشريف مرة بعد أخرى تعظيماً للأدلة لئلا تقيد القدرة بما يقترن به الاسم دالاًّ بالعالم السفلي بعد الإرشاد بالعلوي وآخر السفلي لأن آياته على ظهورها خفيت بكثرة الإلف لها‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي المستجمع لجميع الجلال والإكرام ‏{‏جعل لكم‏}‏ أي نعمة عليكم اهتماماً بأمركم ‏{‏الأرض بساطاً *‏}‏ أي سهل عليكم التصرف فيها والتقلب عليها سهولة التصرف في البساط، ثم علل ذلك فقال‏:‏ ‏{‏لتسلكوا‏}‏ أي منجدين ‏{‏منها‏}‏ أي الأرض مجددين لذلك ‏{‏سبلاً‏}‏ أي طرقاً واضحة مسلوكة بكثرة ‏{‏فجاجاً *‏}‏ أي ذوات اتساع لتتوصلوا إلى البلاد الشاسعة براً وبحراً، فيعم الانتفاع بجميع البقاع، فالذي قدر على إحداثكم وأقدركم على التصرف في أصلكم مع ضعفكم قادر على إخراجكم من أجداثكم التي لم تزل طوع أمره ومحل عظمته وقهره‏.‏

ولما كانوا جادلوه عليه الصلاة والسلام بعد هذا البيان الذي لا يشك في دلالته على المراد من تحقق لصفاء الإيقان، فأكثروا الجدال ونسبوه إلى الضلال وعصوه أقبح العصيان وقابلوه بأشنع الأقوال والأفعال، طوى ذلك مشيراً إليه بقوله مستأنفاً‏:‏ ‏{‏قال نوح‏}‏ أي بعد رفقه بهم ولينه لهم شاكياً منهم‏:‏ ‏{‏رب‏}‏ أي أيها المحسن إليّ المدبر لي المتولي لجميع أموري‏.‏

ولما كان الضعفاء أكثر الناس بحيث إذا اجتمعوا دل الرؤوس الأقوياء بالأموال والأولاد وكانوا كأنهم الكل، فقال مؤكداً لأن عصيانهم له بعد ذلك مما يبعد وقوعه‏:‏ ‏{‏إنهم‏}‏ أي قومي الذين دعوتهم إليك مع صبري عليهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ‏{‏عصوني‏}‏ أي فيما أمرتهم به ودعوتهم إليه فأبوا أن يجيبوا دعوتي وشردوا عني أشد شراد وخالفوني أقبح مخالفة ‏{‏واتبعوا‏}‏ أي بغاية جهدهم نظراً إلى المظنون العاجل بعد ترك المحقق عاجلاً وآجلاً ‏{‏من‏}‏ أي من رؤسائهم البطرين بأموالهم المغترين بولدانهم، وفسرهم بقوله‏:‏ ‏{‏لم يزده‏}‏ أي شيئاً من الأشياء‏.‏

ولما كان المال يكون للإنسان الولد، وكان ينبغي أن يشكر الله الذي آتاه إياه ليكون له خيراً في الدارين وكذا الولد قال‏:‏ ‏{‏ماله‏}‏ أي بكثرته ‏{‏وولده‏}‏ كذلك، وهو الجنس في قراءة التحريك- وكذا في قراءة ابن كثير والبصريين وحمزة والكسائي بالضم والسكون على أنه لغة في المفرد كالحزن والحزن والرشد والرشد، أو يكون على هذه جمعاً كالأسد والأسد، ويكون اختيار أبي عمرو لهذه القراءة في هذا الحرف وحده للإشارة بجمع الكثرة المبني على الضمة التي هي أشد الحركات إلى أنهم- وإن زادت كثرتهم وعظمت قوتهم- لا يزيدونهم شيئاً ‏{‏إلا خساراً *‏}‏ بالبعد عن الله والعمى عن محجة الطريق، فإن البسط لهم في الدنيا بذلك كان سبباً لطغيانهم وبطرهم واتباعهم لأهوائهم حتى كفروا واستغووا غيرهم فغلبوا عليهم فكانوا سبباً في شقائهم وخسارتهم بخسارتهم، وكان عندهم أنها زادتهم رفعة، وفي السياق دليل على أنهم ما حصلت لهم الوجاهة إلا بها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 24‏]‏

‏{‏وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا ‏(‏22‏)‏ وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ‏(‏23‏)‏ وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا ‏(‏24‏)‏‏}‏

ولما كانت كثرة الرؤساء قوة أخرى إلى قوتهم بمتاع الدنيا، وكان التقدير‏:‏ فأمرتهم بالإيمان فأبوا وأمروهم بالكفر فانقادوا لهم، عطف عليه مبيناً لكثرتهم بضمير الجمع العائد على «من» عاطفاً على «لم يزده» المفردة الضمير للفظ جامعاً له للمعنى لتجمع العبارة الحكم على المفرد والجمع، فيكون أدل شيء على المراد منها فقال‏:‏ ‏{‏ومكروا‏}‏ أي هؤلاء الرؤساء في تنفير الناس عني- وأكد الفعل بالمصدر دلالة على قوته فقال‏:‏ ‏{‏مكراً‏}‏ وزاده تأكيداً بصيغة هي النهاية في المبالغة فقال‏:‏ ‏{‏كباراً *‏}‏ فإنه أبلغ من كبار المخفف الأبلغ من كبير، فلم يدعوا أحداً منهم بذلك المكر يتبعني ‏{‏وقالوا‏}‏ أي لهم في أداني المكر الذي حصل منهم‏.‏

ولما كان دعاء الرسل عليهم الصلاة والسلام جديراً بالقبول لما لهم من الجلالة والحلاوة والبيان والرونق والظهور في الفلاح، أكدوا قولهم‏:‏ ‏{‏لا تذرن آلهتكم‏}‏ أي لا تتركنها على حالة من الحالات لا قبيحة ولا حسنة، وأضافوها إليهم تحسباً فيها، ثم خصوا بالتسمية زيادة في الحث وتصريحاً بالمقصود فقالوا مكررين النهي والعامل تأكيداً‏:‏ ‏{‏ولا تذرن‏}‏ ولعلهم كانوا يوافقون العرب في أن الود هو الحب الكثير، فناسب المقام بذاتهم بقوله‏:‏ ‏{‏وداً‏}‏ وأعادوا النافي تأكيداً فقالوا‏:‏ ‏{‏ولا سواعاً *‏}‏ وأكدوا هذا التأكيد وأبلغوا فيه فقالوا‏:‏ ‏{‏ولا يغوث‏}‏ ولما بلغ التأكيد نهاية وعلم أن المقصود النهي عن كل فرد فرد لا عن المجموع بقيد الجمع أعروا فقالوا‏:‏ ‏{‏ويعوق ونسراً *‏}‏ معرى عن التأكيد للعلم بإرادته، وكان هؤلاء ناساً صالحين، فلما ماتوا حزن عليهم الناس ثم زين لهم إبليس تصويرهم تشويقاً إلى العمل بطرائقهم الحسنة فصوروهم، فلما تمادى الزمان زين لهم عبادتهم لتحصيل المنافع الدنيوية ببركاتهم ثم نسي القوم الصالحون، وجعلوا أصناماً آلهة من دون الله، وكانت عبادة هؤلاء أول عبادة الأوثان فأرسل الله سبحانه وتعالى نوحاً عليه الصلاة والسلام للنهي عن ذلك إلى أن كان من أمره وأمر قومه ما هو معلوم، ثم أخرج إبليس هذه الأصنام بعد الطوفان فوصل شرها إلى العرب، فكان ود لكلب بدومة الجندل وسواع لهذيل ويغوث لمذحج ويعوق لمراد ونسر لحمير لآل ذي الكلاع، وقيل غير ذلك- والله أعلم قال البغوي‏:‏ سواع لهذيل ويغوث لمراد، ثم لبني غطيف بالجرف عن سبأ ويعوق لهمذان‏.‏ قال أبو حيان‏:‏ قال أبو عثمان النهدي‏:‏ رأيت يغوث وكان من رصاص يحمل على جمل أجرد، يسيرون معه لا يهيجونه حتى يكون هو الذي يبرك، فإذا برك نزلوا وقالوا‏:‏ قد رضي لكم المنزل، فينزلون حوله ويضربون عليه بناء، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في سبب وصول شر تلك الأوثان إلى العرب أنها دفنها الطوفان ثم أخرجها الشيطان لمشركي العرب، وكانت للعرب أصنام أخر فاللات لثقيف، والعزى لسليم وغطفان وجشيم، ومنات بديد لهذيل، وإساف ونايلة وهبل لأهل مكة، وكان إساف حيال الحجر الأسود، ونايلة حيال الركن اليماني، وكان هبل في جوف الكعبة- انتهى، وقال الواقدي‏:‏ ود على صورة رجل، وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة نسر- انتهى‏.‏

ولا يعارض هذا أنهم صور لناس صالحين لأن تصويرهم لهم يمكن أن يكون منتزعاً من معانيهم، فكأن وداً كان أكملهم في الرجولية، وكانت سواع امرأة كاملة في العبادة، وكان يغوث شجاعاً، ويعوق كان سباقاً قوياً، وكان نسر عظيماً طويل العمر- والله تعالى أعلم‏.‏

ولما ذكر مكرهم وما أظهروا من قولهم، عطف عليه ما توقع السامع من أمره فقال‏:‏ ‏{‏وقد أضلوا‏}‏ أي الأصنام وعابدوها بهذه العبادة ‏{‏كثيراً‏}‏ من عبادك الذين خلقتهم على الفطرة السليمة من أهل زمانهم وممن أتى بعدهم فإنهم أول من سن هذه السنة السيئة فعليهم وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فلا تزد الظالمين إلا خساراً، عطف عليه قوله مظهراً في موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف‏:‏ ‏{‏ولا تزد الظالمين‏}‏ أي الراسخين في الوصف الموجب لأن تكون آثار المتصف به كآثار الماشي في في الظلام في وقوعها مختلة، شيئاً من الأشياء التي هي فيهم ‏{‏إلا ضلالاً *‏}‏ أي طبعاً على عقولهم وقلوبهم حتى يعموا عن الحق وعن جميع مقاصدهم الفاسدة الضالة الراسخة في الضلال فلا يكون منها شيء على وجه يكون فيه شيء من سداد، وكان هذا بعد أن أعلمه الله سبحانه وتعالى أنه لن يؤمن منهم إلا من قد آمن، والكلام عليه على كل حال كالكلام على دعاء موسى هارون عليهما وعلى محمد أفضل الصلاة والسلام في الشد على قلوب فرعون وملئة لئلا يؤمنوا في حال ينفعهم فيه كما مضى في سورة يونس عليه السلام، وقد بالغ ابن عربي في المروق من الدين فقال في فصوصة‏:‏ إن هذا الدعاء حسن في حقهم، وقال‏:‏ إن الضلال أهدى من الهدى، وإن الضال أحسن حالاً من المهتدي، لأن الضال لا يزال قريباً من القطب المقصود دائراً حوله، والمهتدي صاحب طريقة مستطيلة، فهو يبعد عن المقصود، فأبان أن الله تعالى لم يخلق خلقاً أسفه منه إلا من اتبعه عليه وعلى من ينحو نحوه من الضلال الذي لا يرضاه عاقل من عباد الأصنام الذين لا أسفه منهم ولا غيره، فعليهم أشد الخزي واللعنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 28‏]‏

‏{‏مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا ‏(‏25‏)‏ وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ‏(‏26‏)‏ إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ‏(‏27‏)‏ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا ‏(‏28‏)‏‏}‏

ولما فرغ من أمرهم في ضلالهم، ودعا رسولهم صلى الله عليه وسلم، فلم يبق إلا إهلاكهم‏.‏ وكان من مفهومات الضلال المحق وإذهاب العين كما يضل الماء في اللبن، قال مبيناً، إجابته لدعائه ذاكراً الجهة التي أهلكوا بسببها‏:‏ وأكد ب «ما» النافية في الصورة لضد مضمون الكلام لاعتقاد الكفار أن الإنجاء والإهلاك عادة الدهر‏:‏ ‏{‏مما‏}‏‏.‏

ولما كان الكافر قد أخطأ ثلاث مرات‏:‏ يكفره في الإيمان بالطاغوت، وتكذيب ربه، وتكذيب رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك كافياً في استحقاقه للأخذ قال‏:‏ ‏{‏خطيئاتهم‏}‏ جامعاً له جمع السلامة- في قراءة الجماعة، وأفهمت قراءة أبي عمرو بجمع التكسير أن لهم مع هذه الأمهات الكافية في الأخذ من الذنوب ما يفوت الحصر يوجب تغليظ ذلك الأخذ، فهي مشيرة إلى أنه ينبغي الاحتراز من كل الذنب‏.‏

ولما كان الموجع إغراقهم لا كونه من معين، قال مخبراً عما فعل بهم في الدنيا‏:‏ ‏{‏أغرقوا‏}‏ أي بالطوفان بانياً له للمفعول لذلك وللإعلام بأنه في غاية السهولة على الفاعل المختار الواحد القهار، فطاف الماء عليهم جميع الأرض السهل والجبل، فلم يبق منهم أحداً، وكذا الكلام فيما تسبب عنه وتعقبه من قوله‏:‏ ‏{‏فأدخلوا‏}‏ أي بقهر القهار في الآخرة التي أولها البرزخ يعرضون فيه على النار بكرة وعشياً ‏{‏ناراً *‏}‏ أي عظيمة جداً أخفها ما يكون من مبادئها في البرزخ، قال الشيخ ولي الدين الملوي‏:‏ فعذبوا في الدنيا بالغرق، وفي الآخرة بالحرق، والإياس من الرحمة، وأيّ عذاب أشد من ذلك، وقال الضحاك‏:‏ في حالة واحدة كانوا يغرقون في الماء من جانب ويحترقون في الماء من جانب آخر بقدرة الله سبحانه وتعالى، وفيها دلالة على قول غيره على عذاب القبر‏.‏

ولما كانوا قد استندوا إلى آلهتهم لتنصرهم من أخذ الله تعالى، قال مسبباً عن هذا الإغراق والإدخال من الرحمة ليكون ذلك أشد في العذاب، فإن الإنسان- كما قال الملوي‏:‏- إذا كان في العذاب ويرجو الخلاص يهون عليه الأمر بخلاف ما إذا يئس من الخلاص، معلماً بأن آلهتهم عاجزة فإنهم لم تغن عنهم شيئاً، توبيخاً لمن يعبد مثلها‏:‏ ‏{‏فلم يجدوا‏}‏ وحقق الأمر فيهم بقوله‏:‏ ‏{‏لهم‏}‏ أي عندما أناخ الله بهم سطوته وأحل بهم نقمته‏.‏

ولما كانت الرتب كلها دون رتبته تعالى، وكان ليس لأحد أن يستغرق جميع ما تحت رتبته سبحانه من المراتب، قال مثبتاً الجار‏:‏ ‏{‏من دون الله‏}‏ أي الملك الأعظم الذي تتضاءل المراتب تحت رتبة عظمته وتذل لعزه وجليل سطوته ‏{‏أنصاراً *‏}‏ ينصرونهم على من أراد بهم ذلك ليمنعوه مما فعل بهم أو يقتصوا منه لهم بما شهد به شاهد الوجود الذي هو أعدل الشهود من أنه تم ما أراده سبحانه وتعالى من إغراقهم من غير أن يتخلف منهم أحد على كثرتهم وقوتهم لكونهم أعداءه وإنجاء نبيه نوح عليه الصلاة والسلام ومن معه رضوان الله وسلامه عليهم أجمعين على ضعفهم وقلتهم لم يقعد منهم أحد لكونهم أولياءه، فكما لم يهلك ممن أراد إنجاءه أحد فكذلك لم يسلم منهم، فمن قال عن عوج ما يقوله القصاص فهو أيضاً ضال أشد ضلال، فلعنة الله على من يقول‏:‏ إن الله تعالى كان غير ناصرهم، مع هذه الدلالات التي هي نص في أنه عدوهم، وأن نصرهم إنما يكون على نبيه نوح عليه الصلاة والسلام، واعتقاد ذلك أو شيء منه كفر ظاهر لا محيد عنه بوجه، وقائل ذلك هو ابن عربي صاحب الفصوص الذي لم يرد بتصنيفه إلا هدم الشريعة المطهرة، ونظمه أياً ابن الفارض في تائيته التي سماها بنظم السلوك، فلعنة الله عليه وعلى من تبعه أو شك في كفره أو توقف في لعنه بعد ما نصب من الضلال الذي سعر به البلاد، وأردى كثيراً من العباد‏.‏

ولما أتم الخبر عن إغراقهم، وقدمه للاهتمام بتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم في إجابة دعوته تحذيراً للعرب أن يخرجوا رسولهم صلى الله عليه وسلم فيخرجوه إلى مثل ذلك، عطف على قول نوح عليه السلام من أوله قوله عندما أخبره تعالى أنهم مغرقون وأنه لا يؤمن منهم إلا من قد آمن بعدما طال بلاؤه بهم حتى أن كان الرجل ليأتي بابنه إليه فيقول له‏:‏ احذر هذا أن يضلك، وإن أبي حذر به، وكانت صيغة العموم ليست بنص في أفرادها أبداً، استنجازاً لوعده وتصريحاً بمراده‏:‏ ‏{‏وقال نوح‏}‏ وأسقط الأداة كما هي عادة أهل الحضرة فقال‏:‏ ‏{‏رب لا تذر‏}‏ أي تترك بوجه من الوجوه أصلاً ولو على أدنى الوجوه ‏{‏على الأرض‏}‏ أي كلها من مشرقها إلى مغربها وسهلها وجبلها ووهدها ‏{‏من الكافرين‏}‏ أي الراسخين في الكفر الذي هو كان لهم جبلة وطبعاً ‏{‏دياراً *‏}‏ أي أحداً يدور فيها، وهو من ألفاظ العموم التي تستعمل في النفي العام فيقال من الدور أو الدار لا فعّال، وإلا لكان دواراً، ويجوز- وهو أقرب- أن يكون هذا الدعاء عند ركوبه السفينة وابتداء الإغراق فيهم، يريد به العموم كراهية أن يبقى أحد منهم على ذروة جبل أو نحوه، لا أصل الإغراق، وأن يكون معنى ما قبله الحكم بإغراقهم وتحتم القضاء به أو الشروع فيه‏.‏

ولما كان الرسل عليهم الصلاة والسلام لا يقولون ولا يفعلون إلا ما فيه مصلحة الدين، علل دعاءه بقوله وأكده إظهاراً لجزمه باعتقاد ما أنزل عليه من مضمون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 36‏]‏ وإن كان ذلك خارجاً عن العادة‏:‏ ‏{‏إنك‏}‏ أي يا رب ‏{‏إن تذرهم‏}‏ أي تتركهم على أي حالة كانت في إبقائهم سالمين على وجه الأرض على ما هم عليه من الكفر والضلال والإضلال ولو كانت حالة دنية ‏{‏يضلوا عبادك‏}‏ أي الذين آمنوا بي والذين يولدون على الفطرة السليمة‏.‏

ولما كان ربما كان الإنسان ضاراً ووجد له ولد نافع؛ نفى ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ولا يلدوا‏}‏ أي إن قدرت بقاءهم في الدنيا ‏{‏إلا فاجراً‏}‏ أي مارقاً من كل ما ينبغي الاعتصام به، واكتفى فيه بأصل الفاعل إشارة إلى أن من جاوز الحد أو شرع في شيء بعده من التمادي في الغي صار ذلك له ديدناً فبالغ، فلذلك قال‏:‏ ‏{‏كفاراً *‏}‏ أي بليغ الستر لما يجب إظهاره من آيات الله لأن قولك يا رب لا يتخلف أصلاً، والظاهر أن هذا الكلام لا يقوله إلا عن وحي كما في سورة هود عليه السلام من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 36‏]‏ فيكون على هذا حتى صغارهم معذبين بما يعلم الله منهم لو بلغوا لا بما عملوه كما قال صلى الله عليه وسلم في أولاد الكفار «الله أعلم بما كانوا عاملين»‏.‏

ولما دل هذا كله على أنه دعا على أعداء الله، دعا أيضاً لأوليائه وبدأ بنفسه لأنه رأس تلك الأمة، فقال مسقطاً على عادة أهل الخصوص‏:‏ ‏{‏رب‏}‏ أي أيها المحسن إليّ باتباع من اتبعني وتجنب من تجنبني، فإن من كانت طبيعته طبعت على شيء لا تحول عنه‏.‏

ولما كان المقام الأعلى أجل من أن يقدره أحد حق قدره قال‏:‏ ‏{‏اغفر لي‏}‏ أي فإنه لا يسعني وإن كنت معصوماً إلا حلمك وعفوك ورحمتك‏.‏ ولما أظهر بتواضعه عظمة الله سبحانه وتعالى رتب المدعو لهم على الأحق فالأحق فقال‏:‏ ‏{‏ولوالديّ‏}‏ وكانا مؤمنين وهما لمك بن متوشلخ وشمخاء بنت أنوش، قال أبو حيان‏:‏ وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ لم يكفر لنوح عليه السلام أب فيما بينه وبين آدم عليهم الصلاة والسلام‏.‏ وأعاد الجار إظهاراً للاهتمام فقال‏:‏ ‏{‏ولمن دخل بيتي‏}‏ لأن المتحرم بالإنسان له حق أكيد لا سيما إن كان مخلصاً في حبه، ولذا قال‏:‏ ‏{‏مؤمناً‏}‏ ولما خص عم وأعاد الجار أيضاً اهتماماً فقال‏:‏ ‏{‏وللمؤمنين والمؤمنات‏}‏ أي العريقين في هذا الوصف في كل أمة إلى آخر الدهر ولا تزدهم في حال من الأحوال شيئاً من الأشياء إلا مفازاً‏.‏

ولما كان التقدير بما أرشد إليه الاحتباك‏:‏ ولا تكرم المارقين، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ولا تزد الظالمين‏}‏ أي العريقين في الظلم في حال من الأحوال ‏{‏إلا تباراً *‏}‏ أي إلا هلاكاً مدمراً مفتتاً لصورهم قاطعاً لأعقابهم مخبراً لديارهم وكما استجاب الله سبحانه وتعالى له في أهل الإيمان والكفران من أهل ذلك الزمان فكذلك يستجيب له في أهل الإيمان وأهل الخسران بالسعادة والتبار في جميع الأعصار إلى أن يقفوا بين يدي العزيز الجبار، والأية من الاحتباك‏:‏ إثبات الدعاء المقتضي لأصل إكرام المؤمنين أولاً مرشد إلى حذف الدعاء المفهم لأصل إهانة الكافرين ثانياً، وإثبات الدعاء بزيادة التبار ثانياً مفهم لحذف الدعاء الموجب لزيادة المفاز أولاً، وهذا الآخر المفصح بالتبار هو ما أرشد إليه الابتداء بالإنذار، فقد انطبق الآخر على الأول على أصرح وجه وأكمل، وأحسن حال وأجمل منال، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم والحمد لله تعالى على كل حال‏.‏